بعد أن تناولنا مفهوم “النسخ”، عبر المواضع الأربعة التي ورد فيها المصطلح في التنزيل الحكيم: سورة البقرة [106]، والأعراف [154]، والحج [52]، والجاثية [45].. وبعد أن تبين لنا أن القاعدة الأساس التي ينبني عليها مفهوم النسخ، في القرآن الكريم – تؤكد أن “النسخ” مفهوم يؤشر إلى “تدوين شيء بشكل يكون صورة طبق الأصل من أصل الشيء”.. أي: “نقل صورة شيء إلى مكان، مختلف عن مكان الشيء الأصلي”؛ وهو ما يعني أن مصطلح “النسخ” في التنزيل الحكيم، يُشير إلى المماثلة أو المطابقة، كما نستعملها في وقتنا المعاصر.
وبعد أن تبين لنا ذلك، لنا أن نؤكد على أن الدلالة المفهومية لمصطلح “النسخ”، في آيات التنزيل الحكيم، قد حُرِّفَت، نتيجة الدلالة الذهنية العربية في مرحلة “عصر التدوين”، لتكون “نسخا” (بمعنى المحو والإلغاء)، لآيات القرآن بعضها بعضا؛ في حين أن مفهوم النسخ في التنزيل الحكيم لا يعني، ولا يمكن أن يعني إبطالا لبعض الآيات أو إسقاطا لها.
والواقع، أن التحريف إياه الذي لحق بمصطلح النسخ، في عصر التدوين، لتثبيت معناه بأنه “إلغاء ومحو حُكم إلهي”، قد خضع للأهواء والتفسيرات الخاطئة، لمن تناولوا آيات الذكر الحكيم.. يكفي أن نذكر هنا، من بالغ في دعواه “الخاطئة” حتى أبطل معظم الأحكام القرآنية بدعوى النسخ، مثل ابن حزم في كتابه “الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، بيروت، 1986″؛ ومنهم من حاول التوسط في وجهة نظره “الخاطئة”، مثل السيوطي في كتابه “الاتقان في علوم القرآن، بيروت، 2012″؛ بل، إن منهم من أوصل الآيات المنسوخة إلى565 آية.
بهذه الحالة العقلية التاريخية، وإسقاطاتها الذهنية الخاصة بها على القرآن الكريم، أي: مبادئها العقلية وأشكال تصورها للوجود؛ كان هذا الخلط الخاطئ في فهم دلالة مصطلح “النسخ” في التنزيل الحكيم.
وقد عبّر هذا الخلط الخاطئ عن نفسه في مظهرين اثنين: الأول، إلغاء حُكم آية بآية أُخرى؛ والآخر، إلغاء حُكم آية بـ”حديث” أو برأي فقهي. وفي نظرنا، فإن هذا الأخير لا يستحق حتى مجرد النقاش، لسبب بسيط أنه لا يمكن الاعتداد به أمام “الخطاب القرآني”؛ أما الأول، فهو ما يستحق التناول، لا لشيء إلا لتبيان مدى “الخطأ”، أو قل: “الخلط الخاطئ”، في فهم آيات التنزيل الحكيم، في تكاملها مع بعضها البعض، في السياق القرآني العام.
آيات سورة البقرة
لقد ضرب الذين قالوا بالنسخ، بمعنى المحو والإلغاء، أمثلة متعددة.. من بينها أن الآية [234] من سورة البقرة، قد ألغت الحُكم الذي أوردته الآية [240] من السورة نفسها.. ولنحاول تناول الآيتين معًا في سياقهما القرآني..
يقول سبحانه: “وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ…” [البقرة: 240].. ويقول تعالى: “وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا…” [البقرة: 234].
وكما هو واضح، فإن الخطأ الذي وقع فيه من قالوا بأن الآية الثانية تلغي حًكم الآية الأولى، هو الظن بأن الآيتين تتحدثان عن عدة المرأة الأرملة، وظنوا أن الآية [240] تجعل عدة الأرملة حولًا كاملًا “إِلَى الْحَوْلِ”، في حين تجعل الثانية، الآية [234]، عدتها “أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا”.
والواقع، أن الآية الثانية هي من تتحدث عن “عدة” الأرملة بعد وفاة زوجها، وتُحدد المدة الزمنية لهذه “العدة”.. يقول سبحانه: “وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” [البقرة: 234].
لكن الآية الأولى، خلافًا لما توهمه البعض بسبب إشكالية “الترادف”، لا تتحدث عن “العدة”؛ بل، تتحدث عن “المتعة” الواجبة للأرملة بعد وفاة زوجها “مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ”. فـ”الخطاب القرآني” أوجب هذه “المتعة” للأرملة “وصية” لها؛ فمن حق الأرملة أن تُقيم في بيت زوجها المتوفى عنها طيلة سنة كاملة، ولا يحق لأحد أن يُخرجها منه طوال هذه المدة؛ وهذا، بناءً على ما يُقرره التنزيل الحكيم، لا يتعارض مع حقوقها الأخرى في الميراث.. وما تنبغي الإشارة إليه، في هذا المجال، أن التنزيل الحكيم لم يوجب هذه “المتعة” للأرملة فقط، ولكن أوجبها للمطلقة.. أيضًا، وجعلها حقًا لها؛ وذلك في الآية التالية مباشرة، الآية [241].
والآيتان تتحدثان عن “متعة” الأرملة، ثم “متعة” المطلقة.. يقول سبحانه وتعالى: “وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٭ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ” [البقرة: 240-241].
آيات النور والنساء
ضمن الأمثلة على “الخلط الخاطئ” في فهم آيات التنزيل الحكيم، في تكاملها مع بعضها البعض في السياق القرآني العام.. ما قال به البعض، من أن الآية [2] من سورة النور، قد ألغت الحُكم الوارد في آيتي سورة النساء [15-16]. ولنعد إلى آيات الله البينات، لنرى..
يقول سبحانه: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ” [النور: 2].. وكما هو واضح فإن الآية تتحدث عن عقوبة مرتكبي فاحشة “الزنا”، الذي هو فعل تم بين أنثى وذكر. وهنا، لنا أن نلاحظ “دقة” التعبير القرآني، حيث قدم الأنثى على الذكر “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي…”، لأن جريمة الزنا لا تتم إلا بأن تُعطي “الأنثى/المرأة” نفسها لـ”الذكر/الرجل”، وإلا كان “اغتصابًا”، لا يُوجب عليها العقوبة التي تقترن فيها بـ”الذكر” برضائها.
وفي الآية التالية، مباشرة، فيأتي تحريم الزنا “عَلَى الْمُؤْمِنِينَ”، بعد تقديم الذكر على الأنثى من حيث إنهما يشتركان في التوصيف الخاص بـ”الزنا”.. يقول تعالى: “الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ” [النور: 3].
أما في سورة النساء، يقول سبحانه: “وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا” [النساء: 15].. وفي الآية التالية، مباشرة، يقول تعالى: “وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا” [النساء: 16].
وهنا، يبدو الخطأ الفادح في التعامل مع آيات التنزيل الحكيم، من خلال “عقلية” القرون الوسطى”، عبر القول بأن الآية [2] من سورة النور قد ألغت حُكم الآية [15] من سورة النساء؛ إذ، يبدو بوضوح أن الآية [15] تتحدث عن “الْفَاحِشَةَ” بين النساء حصرًا، وهو ما يتأكد عبر الاسم الموصول المُخصص لجمع المؤنث في بداية الآية “اللَّاتِي”، وعبر صيغة الجمع المؤنث في الأمر الإلهي “فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ”، مرورًا بـ”الحصر” الوارد في الآية بالنساء “يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ”. وتوضح الآية العقوبة وهي الإمساك في البيوت، بعد استكمال الواقعة بالشهادة.. وهذا، ما يُسمى اليوم بـ”السحاق”.
أما الآية [16] من سورة النساء، فتُضيف تأكيدًا على تأكيد بمدى الخطأ الفادح في التعامل مع آيات الله البينات دونما امتلاك بدهيات اللسان العربي المبين، لسان القرآن؛ إذ يبدو بوضوح أن الآية تتحدث عن “الْفَاحِشَةَ” بين الرجال حصرًا، وهو ما يتأكد عبر الاسم الموصول المُخصص للمثنى المذكر في بداية الآية “اللَّذَانِ”، وعبر صيغة المثنى المذكر في الأمر الإلهي “فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا”، مرورًا بـ”الحصر” الوارد في الآية بالرجال “وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ”. وتوضح الآية العقوبة وهي الإيذاء، ثم “فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا”.. وهذا، ما يُسمى اليوم بـ”اللواط”.
وهكذا، فإن “الْفَاحِشَةَ” الوارد ذكرها في الآيتين ليست هي “الزنا”، حيث إن الزنا: “جماع بين أنثى وذكر، برضائهما معًا، دون عقد شرعي”، وهو ما استهدفته الآية [2] من سورة النور، ونصت على عقوبته بـ”الجلد”.
بقي في هذه المُقاربة الحديث عن ما يعتبره البعض “نسخًا”، بمعنى المحو والإلغاء، ونعني به: ما يقولونه حول التدرج في “تحريم الخمر”.. وهو محور حديثنا القادم، بإذن الله تعالى.