رؤى

صوت الشيخ رفعت الذي كان عزاءً لمصر بعد الاحتلال

كان من النادر حصول أي مقرئ علي الإجازة الازهرية من مولانا فضيلة الإمام الأكبر مصطفي المراغي, عاشق ومحب صوت السماء الشيخ رفعت الذي قال عنه: هو منحة من الأقدار حين تهادن وتجود، بل وتكريم منها للإنسانية.

هذا الفتي الذي ولد مع الثورة العرابية بالمعني, ورث عن أبيه حب عرابي, عندما صار كوكب القراء في مصر.. كان يسأل ليعرف هل جاء الزعيم للمسجد؛ كي يبدأ القراءة, في ذلك الوقت كان عرابي الموصوف بالعاصي في صحف المحتل؛ يجلس حزينا لا يعزيه سوي صوت ابن صديقه ضابط البوليس محمود رفعت, الذي حمل صوت مصر الجريحة في الثورة العرابية لتشرق مع هبة ثوار 1919، أشبال العرابيين الذين صاروا رجالا.

كان للثورة صوتان أولهما الصوت المشاغب الجبار المسموع الرقراق الجميل، صوت مولانا محمود البربري الثوري المدهش الذي لم نجد له تسجيلا, والصوت الثاني الأعظم الشيخ رفعت, الصوت الذي عبر عن شعب مصر كله بمن فيهم الملك فؤاد الأول الذي كان يجلس مستمعا له بكل وقار.

عظمة رفعت غير المحدودة أنه عبّر عن مكنون مصري لا يراه سوي من منحته مصر بعض سرها, ومنهم طلعت باشا حرب.

في مبني الإذاعة يحضر طلعت حرب الذي كان أول من قرر تسجيل صوت قيثارة السماء في الإذاعة, ثم بذكاء شديد يدعو رفعت للقراءة في طنطا، ليفتتح بنك مصر فرع الغربية الرئيسي, ثلاث ساعات متصلة والناس في حالة نشوة بصوت الشيخ رفعت, مصر كلها في طنطا، النحاس باشا زعيم الوفد يتقدم الحضور بصحبة الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي تكفّل بشرح تقاسيم صوت رفعت للحاضرين, كان عبد الوهاب يقول “أنا صديق الشيخ رفعت حتى يقرأ القرآن؛ فأصبح خادما تحت قدميه” – كما حكي لسعد الدين وهبه في كتاب وبرنامج النهر الخالد–.

 من الصعيد أتى النائب الأسيوطي المحامي الكبير زكريا باشا نوران, ليستمع لصوت رفعت في مسجد فاضل, في اليوم التالي يسافر لبرلين حتي يشتري جرامافون، كي يسجل مجموعة من التسجيلات للشيخ محمد رفعت (278) اسطوانة مدتها (25) ساعة تضم (19) سورة من سور القرآن الكريم بصوته العذب, وكتب الإذاعي محمد فتحى في كتابه الإذاعة في نصف قرن: استمع إلى الشيخ محمد رفعت وهو يرتل سورة يوسف, لأن فن الترتيل عنده بلغ القمة بل أعلى الذروة من الأصالة والدقة, ستبلغ بك النشوة الفنية غايتها وأنت محلق مع المرتل فى السماوات العلا مع أحداث الرواية الإلهية.. يا له وهو يصور الإنسان تحت ضغط الغريزة الجامحة التى تكاد تجرف حتى النبى “ولقد هَمّت به وهَمّ بها” ثم استمع إليه وهو يرتل على لسان امرأة العزيز “هَيت لك” مرة بفتح الهاء أخرى بكسرها في أداء علوى يسمو بالإنسان فوق نفسه.

وصفه الكاتب الساخر محمود السعدني في كتابه “ألحان السماء” بأنه مثل أبي ذر الغفاري، يمشي وحده ويموت وحده، ويبعث وحده يوم القيامة، ووصفه الناقد الموسيقي كمال النجمي بــأعظم صوت تغنى بالقرآن، في كتابه “الغناء المصري” فيقول: جلست على مقربة من الشيخ رفعت ألتمس عنده زادا للوجدان، فانسابت النبرات الموسيقية الدافئة، تمتد من حنجرته الوهاجة إلى الجالسين حوله، امتداد أشعة الشمس إليهم في رحاب المسجد، ولعلي فوجئت في اللحظات الأولى بأن صوت الشيخ رفعت بدون الميكرفون لا يجلجل فيملأ الجو كما عهدناه، ونحن نسمعه سنوات طوال من خلال الراديو في قريتنا بالصعيد, في الراديو مرتفعا مدويا، تسمعه معنا القرى المجاورة، ولكنه في المسجد أشبه بالكمان الخافت ينصت السامعون إليه بانضباط شديد، حتى لا تفوتهم منه همسة، فإن همسة من ذلك الكمان الخافت العبقري تساوي أضعاف وزنها طربا أو وجدا أو نورا تستضيء به الروح, فالميكرفون كان يزيف صوته, لكن خفوت صوته لم يكن يحجب عن السماع اتساع مساحته، وكثرة درجاته الموسيقية أو مقاماته، فإن صوت الشيخ رفعت من الأصوات النادرة التي يضيق حجمها وتتسع درجاتها الموسيقية حتى تتفوق باتساعها على أكبر الأصوات حجما، أما درجاته الموسيقية المتعددة، فهي لا تتغير بالميكرفون وبدونه، فلم يكن بين صوته الطبيعي، وصوته الميكرفوني إلا فارق الوضوح في الأسماع حين تصغي إليه من بعيد، كان صوتا فذا مكتمل الروعة، تنطلق من حجمه الضيق درجاته الموسيقية المتعددة فتبلغ سماء الفن، كما ينطلق الصاروخ من قاعدته فيبلغ الفضاء الأعلى.

يقول عبد الوهاب  في تشريحه الموسيقي لصوت الشيخ رفعت: “والحق أنني لم أسمع طوال حياتي صوتا ضيق الحجم خافتا كصوت الشيخ رفعت، يحتوي برغم ضيق حجمه وخفوته، على ثماني عشرة درجة موسيقية، أو ثمانية عشر مقاما موسيقيا سليما، ويمتد بكل انسجام واقتدار على أقسام الأصوات الرجالية الثلاثة المعروفة عند الموسيقيين، وله فوق هذا كله، استعارة صوتية عجيبة تتألف من ثلاث درجات موسيقية ساحرة، ما سمعنا مثلها حتى يومنا هذا، فاجتمعت بذلك لصوته العبقري مساحة موسيقية هادئة تضم واحدا وعشرين مقاما تقريبا، كما تنطوي الطاقات الهائلة في الذرة الصغيرة”.

كان تأثير حي السيدة زينب في صوت رفعت مدهشا, هناك حيث الفقراء والقراء المنشدين  حول مقام رئيسة الديوان ستنا السيدة زينب, من هناك خرج مولانا الشيخ أحمد ندا الذي عندما سمع صوت الصبي رفعت صدمته روعة الصوت فصحبه من يده كي  يقرأ, هنا يدخل رفعت عالم القراء الكبار ولو كان صغيراً في السن وصوت ندا بالقطع ليس له مثال فهو كالذهب المصهور، لكن رفعت هو صوت الشعب، يقف فريدًا غريبًا باهرًا، وسر غرابته أنه استمد طبيعته من جذور الأرض، فمن أصوات الشحاذين والمداحين والندابين والباعة الجائلين، خرج مشحونًا بالأمل والألم، مرتعشًا بالخوف والقلق، عنيفا عنف المعارك التي خاضها الشعب، عريضًا عرض الحياة التي يتمناها، ولذلك كتب لهذا الصوت البقاء، وسيظل إحدى علامات الطريق في تاريخنا الفني الطويل,كما جاء في مذكرات نجيب الريحاني “حياة الضاحك الباكي” أن المرات القليلة التي كان يتأخر فيها عن رفع ستار مسرحه، تلك التي كان يجلس فيها متصوفا يستمع بقلب خاشع لصوت الشيخ رفعت، والذي عرف عنه حبه للموسيقي وشغفه بسيمفونيات بيتهوفن.

 إن الريحانى كان يبكى عندما يستمع إلى تلاوته، وقال إنه عندما يكون عنده مسرح، والشيخ رفعت يقرأ فى الإذاعة لا يفتح الستارة حتى ينتهى الشيخ من القراءة.

كما جاء في مذكرات الريحاني تحت عنوان “نزهة الحنطور مع الشيخ رفعت”: “لابد أن أعترف بفضل القرآن على تفكيرى وطريقة عملي، من القرآن تعلمت الكثير، تعلمت الصبر والجلد والشجاعة والقسوة فى الحق وحب الفقير والنزعة إلى حب الخير.

كان مولانا مصطفي المراغي يستقبل في الأزهر المحبين لصوت رفعت ومن يفتشون عن الإسلام وكلهم متفقون علي حب صوت رفعت كسبب لتحولهم نحو الإسلام, وكان مولانا فضيلة الإمام الأكبر مصطفي المراغي من أهم أصدقاء الفنان نجيب الريحاني, وكانا يجتمعان لسماع الشيخ رفعت في صالونه الذي يستقبل كل يوم كبراء مصر, وعندما قابل شيخ الأزهرمولانا مصطفي المراغي، الشيخ رفعت قال له إنه عُرض عليه القراءة في الإذاعة لكنه رفض نظرًا لأن الإذاعة مكانًا غير طاهر؛ لأنها تحت وصاية بريطانية، فضلًا عن احتمالية وجود محرمات بها وتبرج قريبات الإنجليز.

ولكن الشيخ المراغي  أقنعه أن القراءة في الإذاعة أمر عادي ومحبوب؛ لأن الراديو وسيلة تصل للجميع، فالعيب فيما يُقدّم في الراديو وليس العيب في الراديو نفسه، والقرآن خير شيء يُقدم عن طريق الراديو، فاقتنع الشيخ رفعت ووافق على القراءة بالإذاعة، وخبأ القدر للشيخ رفعت أن يكون هو أيضا صاحب التلاوة في الحفل الرسمي للإذاعة بدار الأوبرا.

وكتب الريحاني فى مذكراته: قرأت القرآن مترجما بالفرنسية عدة مرات ثم ذهبت لصديقي  الإمام مصطفي المراغي  شيخ الأزهر فسهل لى قراءته بالعربية وأعطانى من أجل هذه الرسالة السامية الكثير، ومن القرآن تعلمت الكثير, ولما قرأت القرآن مترجما بالفرنسية وبالعربية أردت أن استمع إليه مرتلا وكنت أستمع من حين لآخر للقرآن حتى استمعت ذات ليلة فى منزل أحد الأصدقاء إلى تلاوة منه بصوت الشيخ محمد رفعت, ووصف صوت الشيخ محمد رفعت قائلا: ما كاد هذا الصوت ينساب إلى صدرى حتى صممت على لقاء الشيخ رفعت وفعلا التقيت به أكثر من مرة وتصادقنا, وأبدى الريحاني انبهاره بالشيخ رفعت مضيفا: الشيخ محمد رفعت غير صفته كقارئ معروف كان عالما كبيرا له العديد من الآراء فى مختلف القضايا، أما صوته فهو الخلود بعينه، صوت له نبرات احتار فى فهمها العلماء، وسألت عبدالوهاب يوما عن سر حلاوة هذا الصوت فقال: إنها منحة إلهية وعبقرية لن تتكرر بعد الآن.

وتابع: “كان الشيخ رفعت يقرأ القرآن فى جامع صغير بشارع درب الجماميز، وكنت أذهب إلى هناك فى العديد من أيام الجمع لأسمع هذا الصوت الخالد الحنون، الذى هز كيانى، وقلب كل معنوياتى وجعلنى أقدس هذه الحنجرة الغالية الخالدة المرهفة وهى ترتل أجمل المعانى وأرقها وأحلاها”.

واختتم الريحاني حديثه عن الشيخ رفعت قائلا: “كانت هناك هواية تربطنى بالشيخ رفعت فأنا وهو كنا نحب ركوب الحنطور، وكنت أدعوه كثيرا للتنزه فى حنطورى، إن صوت الشيخ رفعت كما قال لى عبدالوهاب صوت من معدن خاص لن يجود به الزمن بعد ذلك”.

لحظة ميلاد الطفل محمد محمود رفعت 1882، كانت مثل شعلة جميلة أضاءت حياة أبوه الذي كان يرجو أن يرزق بطفل, تحقق الحلم لسيادة المأمور محمود رفعت الذي قرر تسمية الطفل محمد رفعت, وهو اسم مركب كعادة هذه الأيام, طفل جميل عيونه واسعة وبياضه واضح, في الرابعة من العمر بكي الطفل من وجع في عينيه, ذهب به أبوه لكل أطباء العيون كانت النتيجة صادمة, العمي والظلام صارا قدر الطفل المسكين الذي صرخ, مش شايف يا بابا,بكي المأمور “معلش يا محمد بكرة تتعود يا حبيبي”.

“لكن بكرة كمان هتشوف بقلبك يا محمد اللي عمر ما كنت هتشوفه بعينيك”.. وقد كان. كما جاء بكتاب قيثارة السماء للباحث محمود توفيق الخولي، في هذا التوقيت قرر محمود رفعت إرسال طفله لمركز تعليم الأطفال المكفوفين قواعد اللغة العربية والقرآن فقط؛  لصعوبة تعليمهم أى علم آخر بسبب ظروفهم, ولهذا قرر المأمور أن يحفظ رفعت القرآن.. كل يوم يذهب به للمركز وطوال الوقت يتحدث مع طفله كي يكسر حاجز الظلام ليتوقف الصبي عن البكاء, حتي حفظ معظم القرآن العظيم, ثم قرر أن يعلمه فنون الموسيقي كي تشغله بعض الوقت, لكن الزمان لم يسعف الوالد الذي توفي حزينا من شدة البكاء، لكن ظل صوته في وعي ابنه لا ينقطع لحظة, كانت جنبات جامع فاضل الجنة التي ولد فيها صوت رفعت, بالتحديد  في كتاب بشتك الملحق بجامع فاضل باشا بدرب الجماميز، ومن حسن حظ رفعت  أنه تعلم طريقة التنغيم الصحيح من الشيخ العبقري  محمد حميدة الذي رعاه كأب, وتنبأ له بمكانة رفيعة في عالم القراء, وكان يوصي الناس عليه كي يحيي الليالي والمناسبات، ينشد ويقرأ لهم. وبسرعة تعلم رفعت كأنه كان يسابق الزمن، خوفا من رحيل شيخه حميدة، ثم درس تفسير القرآن، والقراءات السبع والتجويد علي يد الشيخ عبدالفتاح هنيدى، ثم درس الموسيقى وأصولها وحفظ مئات الأدوار والتواشيح والقصائد الدينية ودرس العزف علي العود وأجاده، وكان من محبي صوت الشيخ سيد درويش, وكما شهد عبد الوهاب أن رفعت كان يستمع للموسيقي العالمية لبيتهوفن, كما أحب صوت أم كلثوم التي عشقت صوته.

تحدث الشيخ محمد رفعت عام 1940، إلى مجلة الإثنين ونشرت حواره النادر تحت عنوان ساعات مع الشيخ رفعت في داره.

وتطرق الحوار إلى موقفه الرافض في البداية لتلاوة القرآن الكريم في الإذاعة، وحصوله على فتوى من علماء الأزهر، وكيف حافظ على صوته الذهبي الملائكي من المؤثرات المختلفة.

كان الشيخ محمد رفعت يحب قضاء الوقت في داره مع قرينته وأولاده، فلا يكاد يغادرها إلا لإذاعة القرآن من محطة الإذاعة أو القراءة في سهرة يدعي لإحيائها أو في مسجد الأمير فاضل في شارع درب الجماميز يوم الجمعة.

ومن عاداته أنه كان يستيقظ مبكرا ويصلي الصبح حاضرا، ثم يشرب القهوة ويجلس لتلاوة القرآن ثم ينتقل إلى حجرة الاستقبال ليستقبل أصدقاءه وزواره ويتحدث معهم، وكان لا يأكل إلا مرة واحدة في اليوم، ومن أحب الأكلات إليه “سد الحنك”.

وقال الشيخ رفعت، إنه حافظ على صوته بتجنبه البرد وعدم البقاء في مكان به رائحة قوية عطرية أو كريهة وعدم تناوله الأطعمة التي تحتوي على مواد حريفة كالفلفل والشطة والأطعمة التي يعسر على معدته هضمها، وأضاف قائلا: “كما أني لا أتعشى ولا أدخن”.

وكان من أحب الأوقات إلى الشيخ محمد رفعت الوقت الذي يقضيه بجانب الفونغراف لسماع المطربين والملحنين مثل سيد درويش والحامولي وعبدالحي.

وقال الشيخ رفعت عن بدايات حفظه للقرآن: بدأت وأنا في الخامسة من عمري وكانت النية تتجه إلى إلحاقي بعد ذلك بالأزهر الشريف، ولكن شاء الله غير ذلك؛ فبعد ست سنوات أتممت فيها حفظ القرآن ومجموعة من الأحاديث النبوية وبعد أن سمع المحيطون بي صوتي وقضيت عامين آخرين في علم التجويد– بدأت وأنا في الرابعة عشرة بإحياء بعض الليالي في القاهرة بترتيل القرآن الكريم.. ثم بعد ذلك أحييت العديد من الليالي في الأقاليم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock