ثقافة

عندما أنصفت رؤية “العَالِم”.. الدكتور “حسين مروة” ونزعاته المادية!

يذهب الدكتور محمود أمين العالم في كتابه “الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر” إلى أن جوهر العملية التفسيرية التي تبناها المفكر اللبناني “حسين مروة” في مؤلفه الأهم “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” قد قامت على أسس المنهج المادي التاريخي؛ ولكن ذلك -بحسبه- لا يعد جانب التميز الأهم لدى “مروة”، فكم ممن تبنوا نفس المنهج قد استحال الأمر لديهم إلى شكل مادي ميكانيكي أو إلى مثالية معكوسة! لكن “مروة” لا يقف ذات الموقف من الظواهر الفكرية المختلفة؛ اكتفاءً بكشف العلة؛ بل ينحو لتحديد العوامل المختلفة ذات الطابع التاريخي التي تداخلت في تشكيل وتخلّق تلك الظواهر؛ منطلقا إلى تحديد الفاعلية والدلالة والوظيفة الاجتماعية التاريخية لهذه الظواهر.

فقد قدم الدكتور “حسين مروة” من خلال كتابه.. العديد من الإجابات الشافية في قضايا الفكر العربي الإسلامي، وعلى رأسها قضية الوجود والماهية، والعلاقة بين الفكر العلمي والفكر الفلسفي، وقضية التصوف.. تلك القضية التي استدعى تناوله لها؛ إشادة “العالِم” إذ أكد أن ما كتبه “مروة” بهذا الخصوص يعتبر بحق “أخطر وأعمق ما كتب عنه حتى الآن”.. ويقارن “العالِم” إسهام “مروة” بإسهامات سابقة تحرّج بعضها من تناول التصوف الإسلامي، بوصفه جزءا هاما وبارزا في الحركات الفكرية، في تاريخ الفكر العربي الإسلامي؛ إشارة لكتاب “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي” لطيب تيزيني، كما يبدو طرح “مروة” عميقا أشد العمق إذا ما قُورن بكتاب “تاريخ التصوف الإسلامي” لعبد الرحمن بدوي، الذي يراه “العالِم”  “مجرد وصف خارجي يغلب عليه الطابع المثالي والآلي -أحيانا- في تفسير الظواهر”.

الوعي والوعي الزائف

بالطبع لا يفوت “العالِم” ذكر موقف الدكتور “زكي نجيب محمود” من التصوف، والذي ورد في كتابه “المعقول واللامعقول في الفكر العربي” حيث رفض التصوف؛ لما فيه من اللامعقولية وانعدام النفعية من الناحية العملية صدورا عن منهج الوضعية المنطقية شديد البرجماتية الذي كان يتبناه الدكتور “زكي نجيب” “لهذا فهو لا يدرس التصوف كظاهرة في عصره، ولا كدلالة اجتماعية، أو حتى فردية، وإنما كمجرد شطحات في نصوص وفي سلوك، يرفضها احتكاما إلى المعايير العقلية النفعية”.

ويرى “العالِم” أن “أدونيس” في الثابت والمتحول؛ كان الأكثر توفيقا عندما ذهب إلى أن التصوف هو “تجاوز للشريعة ولمنهج النقل، إلى مرحلة الحقيقة والكشف. وهو ثورة أنطولوجية وأبستمولوجية في آن. فهو موقف جديد من العلاقة بين الله والإنسان”. إلا أنه لم يوفق في عدم التعرض لآليات النشأة الاجتماعية للتصوف ولا لمراحل تطوره، ولا لوظيفته الاجتماعية والدلالات التاريخية له؛ اكتفاءً “بالإشادة التهويلية بطابعه الثوري التجاوزي دون استيعاب نقدي له”.

تميّز طرح “مروة” في قضية التصوف الإسلامي بأنه بالرغم من اعتباره اتجاها مثاليا خالصا، إلا أن اختصاصه بدراسة شاملة وافية في كتاب عن النزعات المادية؛ أتى من كونه يمثل مكونا هاما من مكونات حركة الفكر العربي الإسلامي منذ البداية وحتى القرن الرابع الهجري، وبالطبع فإن عوامل التأثير والتأثر بين تلك المكونات تعتبر دافعا إلى استكناهها كافة بغرض الكشف عن ذلك الارتباط العميق المتفاعل بينها، وفق دلالاتها الموضوعية التاريخية؛ تمحيصا للتأثيرات التي تركها التصوف على بعض النزعات المادية في إطار تلك المرحلة الزمنية.

محمود أمين العالم
محمود أمين العالم

رصد مروة بدايات التصوف وتطوره من الطابع السلوكي إلى الطابع النظري، وبروزه كموقف أيديولوجي متعارض مع الأيدلوجية الرسمية السائدة؛ مُمَحصًا كافة العوامل الخارجية التي صاحبت نشأته وتطوره “دون إغفال المنطق الداخلي الخاص المستقل نسبيا للحركة الصوفية عامة”.

وبحسب “العالِم” فإن فكرة جوهرية رئيسة أراد “مروة” من خلال كتابه أن يدحضها دحضا كليا، برغم رسوخها عند الكثيرين، وهي أن جوهر الفلسفة العربية الإسلامية هو التوفيق بين الشريعة والفلسفة، وبين العقل والنقل، ويعتبر “حسين مروة” تلك الفكرة أسطورة موهومة لا أساس لها، يحمل على عاتقه -من خلال هذا الكتاب- مهمة تبديدها وجعلها هباء منثورا؛ إذ يرى أن العلاقة بين الشريعة والفلسفة ذات طابع صراعي لا توفيقي كذلك الحال بين المعرفة الإيمانية والمعرفة العقلية، بل إنه يذهب إلى أن المواقف التوفيقية عند الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا وغيرهم لم تكن في حقيقتها إلا “تقية” أو أنها تُعزى في أحسن الأحوال إلى قصور المعرفة العلمية، ومما يجدر ذكره هنا.. أن هذا المذهب تبناه أيضا الدكتور طيب تيزيني باعتماده التباينَ بين حقلي الفلسفة والإيمان بوصفه تباينا تاما يفرض الفصل التام، ولا يسمح بأي إمكانية للتلاقي، إذ تعتمد الأولى التشكيك، بينما لا يقوم الثاني إلا على التصديق.

وبالطبع فإن تعميم تلك الرؤية أو الوجهة من قبل “مروة” يعد خطأ فادحا، يدحض بالنظر إلى كثير من الأعمال منها فصل المقال، ومناهج الأدلة لابن رشد، وهما من الأعمال التي لا يمكن غض الطرف عنها، كما يعني ذلك التسليم  بقصر النزعة المادية في هذا العصر على الهرطقة وعدم الإيمان، ويتساءل “العالِم” هنا عن كيفية النظر إلى النزعات المادية عند الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون، هل تعني بالقطع هرطقتهم أو خروجهم من دائرة الإيمان، معللين ذلك بسببين، هما التقية والقصور المعرفي وما أشد تهافتهما! ويرى أن مفهوم المادية في ذلك العصر بالذات يحتاج إلى إعادة نظر وإلى تحديد أشد دقة وأكثر موضوعية”.

حول الكاتب والكتاب

ولد الكاتب والمفكر اللبناني حسين مروة، عام 1908، بإحدى قرى جبل عامل، وقضى اغتيالا بمنزله ببيروت في فبراير 1987، ويعتبر كتابه هذا هو السِفر الأكبر والأجل قيمة في موضوعه، ويعتبره الكثيرون أهم الموسوعات العربية التي تناولت هذا الجانب من الفلسفة العربية الإسلامية؛ بالرغم من أن كاتبه توفي قبل أن يكمل جزءه الثالث.

صدر الكتاب في نحو الألفي صفحة في أربعة مجلدات تحت العنوان المذكور كعنوان عام “غير أنَّ كل مجلد حمل عنوانا خاصا وعالج موضوعا واحدا، المجلد الأول: النزوعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية الجاهلية- نشأة وصدر الإسلام هذا هو عنوان المجلد أما محتواه فهو عبارة عن مقدمة منهجية للكتاب ودراسة مرحلتي الجاهلية وصدر الإسلام.

المجلد الثاني جاء تحت عنوان: “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية المعتزلة-الأشعرية- المنطق” وعالج موضوع علم الكلام عند المعتزلة والأشعرية، ثم علم المنطق الصوري لكون المعتزلة أول من استخدمه.

أما المجلد الثالث فجاء تحت عنوان النزوعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية تبلور الفلسفة- التصوف- إخوان الصفا، وفيه تحدث المؤلف عن التصوف وذلك عبر مثاليين فقط هما ابن عربي والسهروردي، ورسائل إخوان الصفا، وقدم نبذة عن تطور العلوم عند العرب، وأخيرا حمل المجلد الرابع عنوان النزعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية الكندي-الفارابي- ابن سينا، وفيه تحدث المؤلف عن مرحلة نضج الفلسفة عند كل من الكندي، الفارابي، ابن سينا”.

قدم المفكر الكبير الدكتور حسين مروة في هذه الموسوعة الخالدة خلاصة تجربة ثرية بدأت من الحوزة العلمية بالنجف، مرورا بمحافل العلم في بغداد ودمشق وبيروت، عبر تنوع هائل للمكونات الثقافية، وقدرة بالغة على التحليل وتقديم النماذج التفسيرية وفق منهج علمي وإن التزم الصرامة إلا أنه لا يوصم بالجمود، وإن كان ثمة ملاحظات فيما طرحه من أطروحات فكرية في هذا السفر القيم؛ فإن ذلك أدعى إلى أن يستمر الجدل والحوار حولها؛ إغناءً لنشاط فلسفي جاد وحيوي نامل أن يحرك واقع حياتنا الثقافية الراكد.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock