رؤى

متابعات عربية: الجزائر والغاز.. دوافع الطريق “العابر للصحراء”

ضمن أولوياتها الاقتصادية على الصعيد الإقليمي، في منطقة شمال أفريقيا وغربها، تضع السلطات الجزائرية مشروع الطريق “العابر للصحراء” في المقدمة منها؛ حيث تدفع نحو تسريع تنفيذه، بعد تأخر دام لعقود طويلة، وصلت إلى ستة عقود، منذ ستينات القرن العشرين الماضي. وفي هذا الاتجاه، نشطت المشاورات مع الدول الخمس التي تتشارك فيه مع الجزائر، وهي: تونس والنيجر ومالي وتشاد ونيجيريا.

وكشفت أعمال الدورة “73” للجنة الربط للطريق العابر للصحراء، التي انعقدت في الجزائر، في يوليو الماضي، بمشاركة وزراء الدول المعنية، بالإضافة إلى المؤسسات المالية الوطنية والدولية، عن نظرة مختلف الأطراف للمشروع. وكشف وزير الأشغال العمومية الجزائري، كمال ناصري، عن أن نسبة الأشغال الخاصة بإنجاز الطريق قد بلغت مراحل متقدمة، وهي بحدود 90 بالمئة.

أبعاد سياسية

لعل مرد الاهتمام الجزائري بهذا المشروع يعود إلى كونه مساهمًا رئيسًا في تفعيل المبادلات التجارية والاستثمارات بين الجزائر والدول الأفريقية. فالطريق العابر للصحراء، الذي يبلغ مسافة 10 ألاف كيلومتر، ويمر عبر ستة دول أفريقية، منها اثنتان عربيتان، يأتي كمثال للتعاون والتنسيق بين الدول الأفريقية لبلوغ أهداف مشتركة، ستعود على المنطقة بخير كثير.

إلا أن المشروع، بالنسبة إلى صانع القرار الجزائري، لا يخلو من أبعاد سياسية..

من هذه الأبعاد، فك العزلة عن دول الساحل وصناعة تحالفات أفريقية؛ حيث إن فكرة الطريق العابر للصحراء، هي فكرة ذات بعد سياسي تستهدف فك العزلة وتعزيز التجارة بين شمال وجنوب الصحراء (الأفريقية الكبرى)، حيث تُمثل هذه الدول الست المتشاركة في المشروع 27 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للقارة الأفريقية، بمجموع 25 بالمئة من سكانها.

الصحراء الكبرى

وهذا المشروع، وإن كان يتطلب إنشاء أنظمة قانونية خاصة بهذه الدول، تتعلق بالتجارة الدولية والضرائب والرسوم الجمركية، وأنظمة أمنية للمسافرين وبضائعهم عبر الطريق؛ إلا أنه في الوقت نفسه، يأتي ضمن المشروعات الأفريقية التي باتت – في ما يبدو- وسيلة لصناعة تحالفات، خاصة في ظل أزمة الغاز الدولية جراء الحرب الروسية الأوكرانية.

أضف إلى ذلك، أن الطريق سيتم ربطه بطريق الحرير الصيني، عبر ميناء شرشال الجزائري، والذي يُعد من المحطات الرئيسة ضمن المشروع الصيني العملاق “الحزام والطريق”، ما يجعل الطريق العابر للصحراء مستقبلًا، منطقة عبور للسلع الأوروبية نحو الأسواق الأفريقية، باعتبار أن النقل البري يُعد أقل تكلفة من البحري، للوصول إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء.

من هذه الأبعاد أيضًا عودة التحرك الجزائري صوب العمق الأفريقي؛ إذ من الملاحظ أن الجزائر تحاول تغيير البوصلة نحو القارة الأفريقية، التي باتت المكان الأنسب لتصدير منتجاتها، بعد أن واجهت معوقات كبيرة في اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وفي ظل غزو المنتجات الآسيوية، وخصوصا من الصين والهند، منطقة التبادل التجاري العربية.

ومن ثم، تحاول الجزائر التركيز على الأسواق الأفريقية، في ظل علاقاتها الطيبة، سياسيًا واقتصاديًا، مع دول القارة؛ خصوصًا مع دخول اتفاقية التبادل الحر بين الدول الأفريقية حيز التنفيذ، منذ نهاية 2020، ما يسمح بتحقيق الاندماج الإقليمي والتكامل الاقتصادي. وبحسب تصريح رضا تير، رئيس المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وهو أعلى هيئة حكومية استشارية تتبع رئاسة الجمهورية في الجزائر، فإن “الطريق العابر للصحراء مشروع جيواستراتيجي، سيجعل من بلادنا [الجزائر]، البوابة الشمالية الرئيسة نحو السوق الأفريقية مستقبلًا، خاصة بعد إنجاز مشروع الميناء العملاق بمنطقة شرشال”.

ومن هذه الأبعاد كذلك، منافسة التمدد المغربي في دول غرب أفريقيا؛ فالجزائر تراهن على الخط البري الجديد، لمزاحمة التمدد المغربي في عدد من الدول الأفريقية، خاصة في ظل توفر المغرب على عدد من الروابط مع دول غرب أفريقيا، سواء عن طريق البر أو البحر، انطلاقًا من موانئ كطنجة المتوسط أو الدار البيضاء، إضافة إلى ميناء الداخلة الذي يجري العمل فيه. هذا التوجه الجزائري نحو أفريقيا، يأتي متزامنًا مع التحرك المغربي نحو العمق الأفريقي، وبالتحديد في غرب أفريقيا، لا سيما مساعي المغرب بالاعتماد على نيجيريا من خلال خط أنابيب الغاز الأفريقي لسد الطلب المحلي للغاز.

واللافت، في هذا المجال، هو المحاولات الجزائرية في تفعيل مشروع خطوط أنابيب الغاز، للنقل من حقول شمالي نيجيريا إلى أوروبا، مرورًا بالنيجر والجزائر، على مسافة 4600 كيلو متر؛ وهو ما يُمثل ضغطًا سياسيًا، ربما أكثر منه اقتصاديًا، على مشروع أنبوب الغاز “الرباط – أبوجا” المغربي النيجيري.

فوائد اقتصادية

يربط الطريق العابر للصحراء ستا من الدول الأفريقية، وبهذا فهو مشروع طموح بدأ في ستينات القرن الماضي، وكان مبرمجًا أن ينتهي قبل نهاية 2018، لكن ذلك لم يحدث لعدة أسباب مالية وتقنية وسياسية. وظل المشروع يتقدم ببطء على مدار ستة عقود كاملة، قبل أن يتحرك بقوة من جانب الجزائر خلال العقدين الأخيرين.

ويعتبر الطريق العابر للصحراء أكبر مشروع مُهيكل في أفريقيا، يربط ست دول موزعة على ثلاث من المجموعات الاقتصادية الثماني للقارة؛ وتراهن من خلاله الجزائر على عدد من الفوائد الاقتصادية..

فمن جهة، تستهدف الجزائر تدعيم دخول منطقة التجارة الحرة للقارة الأفريقية؛ فضلًا عن تعزيز مكانتها الاقتصادية، عبر تدعيم دخولها منطقة التجارة الأفريقية الحرة. لذا تسعى الحكومة إلى تحويل الطريق العابر للصحراء، الذي يربط الجزائر بالعاصمة النيجيرية لاغوس، إلى رواق اقتصادي بامتياز، حيث يمكن ترقية وتسهيل المبادلات التجارية. ومن خلال هذا الطريق، سوف يتم تصدير المنتجات الجزائرية نحو الدول الأفريقية، وتقليص التكاليف اللوجستية، لاسيما المتعلقة بالنقل؛ فضلًا عن إمكانية إنشاء شبكة بنوك جزائرية لتسهيل المعاملات.

الطريق العابر للصحراء
الطريق العابر للصحراء

أضف إلى ذلك، أن الجزائر تراهن على هذا الطريق لربط موانئها في الشمال بالعمق الأفريقي، بهدف رفع المداخيل وتحسين معدلات النمو، وخلق فرص عمل ليس للجزائر فحسب، ولكن للبلدان التي يمر عبرها الطريق. كما أنه يفتح آفاقًا جديدة في دول الساحل الأفريقي للوصول إلى الموانئ الجزائرية والاستفادة من خدماتها.

ومن جهة أخرى، تستهدف الجزائر رفع المبادلات التجارية البينية مع الدول الأفريقية؛ فمن خلال ثلاثية مناطق التجارة الحرة والطريق العابر للصحراء وموانئ الشمال، يمكن رفع المبادلات التجارية البينية مع الدول الأفريقية إلى قرابة 52 %، في مقابل 16 % حاليًا. بل إن الطريق العابر للصحراء، الذي يعتبر شريانًا اقتصاديًا، سيسمح بتقليص فاتورة النقل الباهظة التي باتت تمثل حوالي 50% من قيمة البضائع، إلى ما بين 20 – 25 %.

هذا، فضلًا عن أن الطريق، الذي يُمثل بوابة اقتصادية هامة، سيساهم في تنويع صادرات الجزائر خارج المحروقات، من خلال تبادل السلع، وتشجيع الاستثمار البيني، وإحداث تكامل اقتصادي؛ بما يترتب عليه من تنمية اجتماعية واستقرار سياسي، عبر ما سوف تُضفيه تكاليف النقل المُخففة على سعر السلع، وتحسين القدرة الشرائية. وهذا ما تظهره دراسة للبنك الدولي، 2021، من أن تكلفة النقل في البلدان النامية، وفي مقدمتها البلدان الأفريقية، ترتفع بمقدار ثلاث مرات تقريبًا، موازاة مع الدول المتقدمة التي تمتلك شبكة طرق كبيرة وفي حالة جيدة.

ومن جهة أخيرة، تستهدف الجزائر تفعيل خطوط أنابيب غاز مرافقًا للطريق العابر للصحراء.. وخط أنابيب الغاز العابر للصحراء هو مشروع قديم، لنقل الغاز الطبيعي من نيجيريا إلى أوروبا عبر النيجر والجزائر. ففي يناير 2002، وقع على مذكرة للتفاهم حول التحضير لهذا المشروع بين الجزائر ونيجيريا، وفي فبراير 2009، اتفق على تنفيذ المشروع. ويمتد خط الغاز، الذي يبلغ طوله 4128 كيلو مترًا، من نيجيريا إلى النيجر ثم إلى الجزائر، لتصدير الغاز إلى السوق الأوروبية، ويستهدف نقل 30 مليار متر مكعب من  الغاز النيجيري إلى أوروبا.

مؤشرات مستقبلية

في هذا السياق، تعوّل الجزائر على مشروع الطريق العابر للصحراء، كـ”مشروع استراتيجي” هام، للنفاذ إلى أسواق الدول الأفريقية، خصوصًا في منطقتي غرب ووسط أفريقيا، التي تضم أكثر من 700 مليون نسمة من الدول الست التي سترتبط بالطريق، والبلدان المجاورة لها.

وفي ما يبدو، فإن المشروع، الذي يُمثل بوابة الجزائر إلى العمق الأفريقي، من شأنه إنعاش عديد من القطاعات الاقتصادية في الجزائر، على غرار التجارة والسياحة والتصدير والتشغيل؛ بل، إنه سيفتح آفاقًا جديدة أمام الجزائر وتقوية مكانتها الاقتصادية والسياسية، في النطاق الإقليمي، لاسيما بين دول المغرب العربي ومنطقة الساحل الأفريقي وتجمع دول غرب أفريقيا.

إلا أنه لا يمكن صرف النظر عن بعض المشاكل التي تواجه  المشروع، من أهمها: الظروف الطبيعية، حيث العواصف الصحراوية والتغير المناخي؛ والظروف البشرية، حيث داعش والمجموعات المتطرفة التي تسيطر على مناطق متفرقة في النيجر ومالي ونيجيريا وتشاد.. وهو ما يستلزم التنسيق الأمني والبيئي بين أجهزة الدول المتشاركة في المشروع، من أجل تأمينه، وصيانته بشكل دوري.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock