بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن صحيفة عُمان
هذا الجزء الثاني من المقال عن مغزى سيطرة اليمين الإسرائيلي المتطرف منفردا علي الحكم، ويبحث في حاجة النضال الفلسطيني إلى استراتيجية جديدة، من حركة تحرر وطني فقط، إلى تحرر وطني يقاوم دولة فصل عنصري، وإلى استراتيجية إحياء حل الدولة الوطنية الديمقراطية الواحدة، بدلا من حل الدولتين الذي قضي عليه نتنياهو وزمرته من المتطرفين.
تمت الإشارة في المقال الأول إلى التطور الكيفي في مسار ومصير دولة إسرائيل، وأنها قد أصبحت نسخة كاملة القبح من نظام الفصل العنصري “الأبارتايد” السابق في جنوب أفريقيا، وأن سيطرة اليمين المتطرف على الحكومة والرأي العام اليهودي في إسرائيل وموت اليسار والوسط العلماني، وأن كذبة أن هناك مواطنين عرب في إسرائيل تم إدماجهم في النظام السياسي، ويعاملون كمواطنين لهم نفس حقوق اليهود قد سقطت تماما!
كما تمت الإشارة إلى أنه ليس لذلك سوي معنى تاريخي واحد هو أن كل دولة فصل عنصري هي إلى زوال طال الزمن أم قصر.
عندما كانت تعقد القمة العربية الأخيرة في الجزائر.. وردت إلى المجتمعين فيها نتائج فوز اليمين الإسرائيلي، ولكن الوفد الفلسطيني في القمة لم يلتقط حبل النجاة التاريخي والسياسي الذي ألقاه إليه هذا التطور الخطير في بنية ما يسمى بالديمقراطية الإسرائيلية منذ 1948، والذي دفع مفكرين كثر للقول بأن الدولة التي نعرفها قد انهارت وصدق على ذلك معلق أمريكي نافذ شديد التعاطف والانحياز لإسرائيل مثل توماس فريدمان بقوله بعد احتكار اليمين للمجال العام الإسرائيلي فكرا ووجدانا وتصويتًا “إسرائيل التي نعرفها انتهت”.
حبل النجاة هذا بإمكانه أن يفكك العقدة المستعصية للانقسام الفلسطيني المرير والمزمن منذ اتفاق أوسلو عموما، ومنذ انفصال غزة خصوصا 2007.
فالقضية الفلسطينية كانت – بصفتها أعدل قضية سياسية وحقوق إنسان باقية على جدول أعمال الضمير العالمي – مكونة من قسمين القسم الأول هي أنها قضية تحرر وطني لشعب من محتله الغاصب، والقسم الثاني الذي تنامى كل يوم بسبب جوهر العقيدة الصهيونية التي قامت عليها الدولة الإسرائيلية.. وهي دولة يهودية نقية حتى لو حكمت عنصريا أغلبية غير يهودية دينا وعربية قوميا وهو أنها قضية شعب “الفلسطيني” يعيش تحت نظام فصل عنصري معاد لكل إنجاز البشرية منذ الحداثة الغربية الذي استقر على نظام كامل لحقوق الإنسان يرفض التفرقة على أساس النوع أو العرق أو الجنس أو الدين أو المذهب أو حتى الطبقة الاجتماعية.
القسم الأول الخاص بأن قضية شعبنا الفلسطيني هي قضية تحرر وطني تواجه مأزق الانقسام والتفتيت غير القابل للإصلاح على المدى المنظور بهكذا بنية فكرية لحماس وبهكذا بنية علاقات إقليمية ودولية للسلطة الفلسطينية ناهيك عن نجاح نسبي للسردية الغربية الإسرائيلية والمسيحية – اليهودية في تزييف الوعي العالمي بأن فلسطين هي أرض تاريخية ومستحقة للشتات اليهودي من كل الأعراق والقوميات!!
تبقي إذن قضية الفصل العنصري وهذه هي القضية التي لا يستطيع أي شخص أن يكابر فيها أو ينكرها مهما بلغ من انحياز أعمى لإسرائيل أو خوف على دورها في حماية مصالح الغرب في الشرق الأوسط حاملة طائرات ثابتة التي لا تغرق بتعبير “ماكنمارا” الشهير وتبقي السيطرة على النفط والطرق الاستراتيجية وتمنع تكاتف الشعوب العربية معا وتكاتفهم مع جارتيها الإسلاميتين المهمتين تركيا وإيران مكابرة من أجل الدفاع عن إسرائيل.
الحديث عن الاحتلال والتحرر الوطني أمامه جبل هائل من الأكاذيب السياسية والدينية وجبل أكبر من المصالح الغربية ولكن قضية إنهاء الفصل العنصري تلقى تعاطفا مذهلا لا يرد خاصة وأن نتنياهو وبن غفير المتطرفان سيعطينا يوميا في الفترة المقبلة من حكمهما بكل وقاحة ممارسات عنصرية جديدة تعمق من قبح الأبارتهايد الاسرائيلي.
ولقد قمت بالإشارة مرارا وتكرارا كمواطن عربي على مدى سنة ونصف تقريبا منذ معركة سيف القدس مايو 2021 إلى ضرورة الاستفادة من هذا التطور المذهل والانفجار الإيجابي الذي حدث بسببه في صورة تعاطف شعبي عالمي غير مسبوق في مظاهرات وبنات حاشدة في كل عواصم الغرب الكبرى وقتها سار فيها أو وقع عليها كبار السياسيين الغربيين وعدد هائل من الحائزين على نوبل في الأدب بل وفي كل التخصصات وربط حركة السود غالية ومهمة فعالياتها لنضالها ضد عنصرية الرجل الأبيض في أمريكا وأوروبا بنضال الفلسطينيين كقضية واحدة بل والأخطر من ذلك هو انضمام أجزاء مهمة من الشباب اليهودي الحداثي إلى هذه الغضبة إذ وجدوا أنفسهم أمام أقرانهم في وضع ميؤوس منه أخلاقيا، إما أن ينتصروا لحقوق الإنسان التي تمنع اضطهاد اليهود عنصريا في الغرب وإما أن يوافقوا على عنصرية إسرائيل الهمجية ويخسرون كل ما حققوه في البنية القانونية والسياسية الغربية من مكاسب مذهلة.
من يعرف تقاليد الاجتماعات العربية بما فيها أعلاها مستوى وهي القمة يعرف أن مشروعات القرارات يتم تحضيرها مسبقا وأن العرف السائد هو أن وفد الدولة صاحب القضية هو الذي يقترح مشروع القرارات التي يريد من القمة دعمه فيها أمام المجتمع الدولي.
ولم يستطع الوفد الفلسطيني التخلي عن النمط البيروقراطي للعمل العربي المشترك ويطلب تعديل ما تم تحضيره مسبقا بحيث تكون القرارات متسقة مع الفرصة السياسية والتاريخية التي يمنحها فوز المتطرفون في إسرائيل لإحياء قضيتهم العادلة.
هذه الفرصة تتمثل في إعادة بناء الاستراتيجية الفلسطينية والعربية لتجعل قضية الفصل العنصري الإسرائيلي غير المقبول دوليا حتى من كثيرين كانوا أبواقا لها هي أولوية العمل السياسي والإعلامي والحقوقي دوليا وفي العالم الغربي على وجه الخصوص. إن قضية التحرر الوطني هي الأساس ولا بدّ من إبقائها حية وإبقاء خيار المقاومة خيارا متأهبًا دوما إلا أن وضعها في المقدمة مع الاختلال المخيف في توازن القوى بسبب الدعم الأمريكي والتقدم التكنولوجي الإسرائيلي الذاتي وتنازل دول عربية بفداحة عن شرط ربط التطبيع مع دولة الاحتلال إلا بعد التوصل القضية الفلسطينية يجعل أن الاستراتيجية الفلسطينية والعربية الأفضل لاستعادة الحقوق المشروعة إنما هي استراتيجية فضح عنصرية إسرائيل.
وإثبات أنها كدولة احتلال تعامل أهالي الضفة وغزة كبانتوستات البيض في جنوب أفريقيا وتعامل ما يسمى عرب إسرائيل معاملة غير إنسانية وكمواطنين من الدرجة العاشرة. إن انضمام أكبر منظمات حقوق الإنسان الدولية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمات المجتمع المدني الحقوقية المستقلة في إسرائيل إلى المنظمات الحقوقية الفلسطينية في دعوة العالم إلى التعامل مع إسرائيل بوصفها نظام كامل للفصل العنصري يتوجب على المجتمع الدولي أن يلتزم فيها مواثيقه التي قررت بالإجماع ويتعهد فيها بالقضاء على أي نظام فصل عنصري بالضبط وعلى قدم المساواة كما نجح في استئصال نظامي روديسيا وجنوب أفريقيا من قبل.
إن توجيه الموارد العربية المادية الهائلة والضائعة الآن سدى والتي تنفق إعلاميا وعلى مراكز الأبحاث وعلى جماعات الضغط في أمريكا والغرب والتي تتناحر بها الدول العربية بها مع بعضها البعض أمام صناع القرار الغربيين لديها فرصة لاستثمار أفضل هو توجيهها هي – ودون أي أموال إضافية – إلي فضح عنصرية إسرائيل والعمل على البناء على قاعدة التعاطف الدولي وبناء تحالفات واسعة من الضمير الإنساني مع الديمقراطيين واليسار التقدمي وحركات النضال الأسود وحركات ضد التمييز ضد الملونين والصفر والمسلمين .. إلخ.. القائمة في الغرب يحول ذلك إلى قرارات ملزمة.
لأول مرة منذ عام 1974 يوجد أمام العرب والمتعاطفين فرصة لاستعادة أهم قرار أممي حصلوا عليه وهو اعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية وهو مكسب تاريخي فرطوا فيه بسهولة عندما رضخوا للضغوط الأمريكية التي قامت بإلغائه.
هناك فرصة للدعوة إلى عقوبات دولية قاسية على إسرائيل كدولة استيطان تمارس فصلا عنصريا على الشعب المحتل.
هناك فرصة أخرى وقد قضى اليمين الإسرائيلي تماما على ما يعرف بحل “الدولتين” أن يعود العرب وتحالفهم العالمي المشار إليه إلى إحياء الدعوة لحل الدولة الديمقراطية الوطنية العلمانية المدنية الواحدة في فلسطين التاريخية من النهر الي البحر ونحن نعرف من هم أصحاب الأرض الحقيقيين ومن هم الذين ينتصرون الآن وسينتصرون أكثر في المستقبل في سباق الديموغرافيا حيث يزيد السكان العرب الآن عن السكان اليهود وسيزداد الفارق باستمرار. هنا تنتصر الديمقراطية على الفصل العنصري وعلى الاحتلال كما حدث في دولة نيلسون مانديلا وخلفائه.