بعدما تميز الفنان عبد الغني السيد في أداء الطقاطيق والمونولوجات والأدوار خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، أصبح من أبرز المطربين الذين تألقوا غنائيًّا في الأربعينيات والخمسينيات، وانضم إليه آنذاك مجموعة أخرى متميزة من المطربين مثل: عبد العزيز محمود، وكارم محمود، ومحمد قنديل، ومحمد عبد المطلب، ومحمد فوزي. وكان من هؤلاء من تميّز بعدد من الأغنيات الناجحة ذات الطابع الشعبي، وذلك عندما كانت الأغنيات الشعبية لها رونق خاص ومذاق راقٍ، فُقِدَ مع الوقت على مستوى الكلمات والألحان.
وبالرغم من نجاح تلك الأغنيات ذات الطابع الشعبي الفولكلوري البسيط؛ إلَّا أن الفنان الراحل عبد الغني السيد استطاع ألَّا يحصر نفسه في قالب غنائي محدد؛ بل اتسمت أغنياته بالتنوع في الألحان والكلمات مثلما تميزت بالانسيابية والبساطة.
وبعدما عرضنا في المقال السابق أهم الأغنيات في مشوار الفنان الراحل عبد الغني السيد مع الموسيقار الخالد رياض السنباطي، فستكون وقفتنا اليوم لإلقاء الضوء على لقائه بالملحن الكبير محمود الشريف [1912- 1990].
لقد كان محمود الشريف هو صاحب أكثر الأغنيات ذيوعًا وشهرة في مشوار الفنان عبد الغني السيد؛ فلقاؤهما في فيلم “شارع محمد علي” كان نقطة انتقال عبد الغني السيد من غناء الأدوار والمنولوجات والطقاطيق، إلى غناء الأغنية الشعبية البسيطة والتي بدأت مع أغنية (وَلَه يا وَلَه) كلمات أبو السعود الإبياري.
ومع الثنائي محمود الشريف والشاعر محمد علي أحمد؛ غَنّى عبد الغني السيد أغنيات: “البيض الأمارة”، و”بايعني ولا شاريني”، و”إيه فكر الحلو بيا”، و “لا إنت ولا أنا”، و”علشانك يا حارمني حنانك”، و”ياللي بعادك طال”.
ومن كلمات الشاعر الغنائي حسين السيد و ألحان الموسيقار محمود الشريف؛ غَنّى الفنان عبد الغني السيد أغنية “يا شاغل روحك بإيديك”، وأغنية “قلبي يا قلبي” عام 1960.
https://www.youtube.com/watch?v=AEcXKVxGkYY
كما لحَّن أيضا الموسيقار محمود الشريف للفنان عبد الغني السيد، أغنية الوالدين “لك والدين يا زين” من كلمات حسين طنطاوي، وقصيدة “يا عروس الروض”، وقصيدة “نداء الوطن”، وموال “ما تحسب إن البعاد يا حبيبي يفرقنا” في فيلم “بنت العمدة” عام 1949، كما لحن أغنية “أنا وإنت في الهوى” من كلمات محمود فهمي إبراهيم، وأغنية “مش قادر أصدق” كلمات الشاعر أمين عزت الهجين.
https://www.youtube.com/watch?v=j7eJ7yXfvIE
ومن كلمات الشاعر زين العابدين عبد الله لحَّن محمود الشريف لعبد الغني السيد أغنية “ليه كده” وتقول كلماتها:
بحبك مهما أشوف منك قسية، وقلبك عمره ما بيعطف عليا .. ليه كده؟ ليه كده؟ كده ليه؟ ليالي هواك دي أجمل ذكرى على بالي، وعهدي معاك ح أصونه مهما يجرى لي، وليه بتزيد في تعذيبي وهونت عليك؟ ولما تشوفني ياحبيبي تداري عينيك .. ليه كده ليه؟ قالوا لي الناس أريح من جفاك قلبي، وم الإخلاص ما هانش عليا أخون حبي، وكان عشمي تهنيني وأكون ع البال، لقيتك غبت عن عيني ليالي طوال .. ليه كده ليه؟ في حبك ليه بتقسى ع اللي مشغول بك؟ وأعمل إيه مادام القلب بيحبك؟ وليل الهجر إيه بعده ده أنا مشغول، وأعيش على الأمل وحده وياما باقول: ليه كده ليه؟
https://www.youtube.com/watch?v=GWZdTU42BV4
ومن اللافت للنظر أنه حول نفس هذا المعنى غنى أيضًا الموسيقار محمد عبد الوهاب من كلمات الشاعر الغنائي حسين السيد أغنية (أحبه مهما أشوف منه ومهما الناس قالت عنه) عام 1944، وكانت في فيلم رصاصة في القلب قصة توفيق الحكيم وإخراج محمد كريم، واستخدم فيها عبد الوهاب إيقاع التانجو. وفي عام 1952، غنّت فيروز من كلمات الأخوين رحباني وألحان حليم الرومي أغنية بهذا المعنى بعنوان “أحبك مهما أشوف منك ومهما الناس تقول عنك”. وكذلك فريد الأطرش غنى عام 1961، في فيلم “شاطئ الحب” أغنية “بحبك مهما قالوا عنك” من كلمات إسماعيل الحبروك.
أما الأغنية الأشهر والأكثر ذيوعًا إلى الآن للفنان عبد الغني السيد من ألحان محمود الشريف فهي أغنية “ع الحلوة والمرة” للشاعر الغنائي سيد مرسي، والتي اكتشف كلماتها في جيب معطفه الشاعر مأمون الشناوي، ثم اتضح له فيما بعد أن تلك الكلمات هي تعبير عن مشاعر مكوجي العائلة تجاه الخادمة التي كانت تعمل لديه في المنزل، وأنه بهذه الكلمات كان يستعطفها؛ كي تعود المياه إلى مجاريها فيما بينهما. وبالفعل كانت تلك الكلمات هي فاتحة الخير على شاعرها الذي تغنى بكلماته فيما بعد أشهر مطربي مصر.
وتقول كلمات هذه الأغنية: ع الحلوة والمرة مش كنا متعاهدين، ليه تنسى بالمرة عِشرة بقالها سنين، عالحلوة والمرة، نسيت خلاص، عهدنا ونسيت ليالينا، ونسيت كمان ودنا ونسيت أمانينا، كان أملى فيك غير كده ليه تنسى ماضينا، حرام عليك كل ده شمتهم فينا، راح تنسى كام مرة وتفرح اللايمين، ع الحلوة والمرة مش كنا متعاهدين، ليه تنسى بالمرة عشرة بقالها سنين، عالحلوة والمرة. أيامنا كانت هنا زيناها عشرتنا، وإيه أقول لك أنا غير بس قسمتنا، يا ناسي عهد الهوى ليه تنسى فرحتنا؟ أنا وانت كنا سوا يا محلا دنيتنا، راح تنسى كام مرة وتفرح اللايمين. إزاي يهون حبنا وتروح ما تسألشى؟ دي العشرة عندي أنا غالية ولا تهونشى، وإن طال عليا الأمل شاري ولا ابعشي، ومهما طال الأمل حبك ما بيضعشي راح تنسى كام مرة، هتسبني كام مرة، راح تنسى كام مرة، وتفرح اللايمين! عالحلوة والمرة مش كنا متعاهدين؟ ليه تنسى بالمرة عشره بقالها سنين؟
وهكذا يتضح أن هذا الثنائي الغنائي؛ قد استطاع منذ أكثر من سبعين عامًا، أن يقدم رصيدًا مهمًا في تاريخ الأغنية المصرية ذات الكلمات البسيطة والألحان الرشيقة، ما يشير إلى تمكّن الفنان الراحل عبد الغني السيد من الانتقال بين الغناء الكلاسيكي والطربي والشعبي البسيط باقتدار ومهارة، فاستطاع أن يبدع في تقديم الأغنية الشعبية المطعمة بالفولكلور والتي تعبر عن الروح المصرية في ذلك الوقت، وهو ما نفتقده الآن في كثير من الأغنيات الشعبية التي من المفترض أنها أعمال فنية، ولكنها تبتعد عن كل ذوق فني، فلا تتميز كلماتها سوى بالسطحية والتفاهة، ولا يغلب على إيقاعاتها سوى الصخب والإزعاج؛ ولذلك فإنها بعد أن تفرض نفسها على الساحة الغنائية لفترة محدودة تختفي، وكأنها لم يكن لها وجود من قبل دون أن تترك أية بصمة فنية أو تضيف إلى التراث الغنائي المصري أو تعبر عن روحه الأصيلة والعميقة.