تعددت التفسيرات حول الولع الجنوني لملايين البشر بالساحرة المستديرة.. منها أنها صورة من صور العدل المتجسدة على الأرض.. وهي صور نادرة الوجود في واقع الناس.. إنها تعيد الإنسان إلى انطلاق البدايات والسعادة الجامحة بالصيد والقنص والنجاة إثر مطاردة مثيرة.. إنها آلة تحويل الأشياء إلى نقائضها.. تخرجنا من عزلتنا؛ لنتوحد وننسى اختلافاتنا، تفتح لنا باب الحلم على مصراعيه؛ فيبدو قريب المنال؛ بينما هو يتبدد مع مضي الوقت.. وقت المباراة المقتطع من العمر الراكد المتفلِّت.. تغدر ظاهريا بما لا يُفهم؛ لكن غدرها يكون قصاصا عادلا للتخاذل والأثرة غالبا.. وفي لحظات الانكسار المريرة؛ يولد الإصرار على وعد التحقق.
ربما لا يكون الأمر على ذلك النحو من التبسيط؛ فنحن مشغولون بها طوال الوقت، عن محاولات أكثر عمقا لفهم فلسفتها.. إنها ليست عرضا مسرحيا، وإن كانت أقرب إلى التراجيديا، وهي لعبة صارمة على نحوٍ ربما ينتزعها بالكلية لحساب الجدية القاسية.. وهي في سبيل لحظة الفرح المتحررة من هموم العالم؛ تسلب الكل حريتهم بالقبول والجبر أيضا في “ميركاتو” يباع فيه نجوم اللعبة، أما الانتقال الحر، فهو الاسم المهذب لنهاية محزنة.
مع قرب انتهاء فعاليات كأس العالم لكرة القدم للرجال.. البطولة الأكثر شعبية على سطح كوكبنا؛ سيشعر الملايين بالحزن الذي سيصل بالبعض إلى درجة الاكتئاب، وسينكب آخرون على استخلاص أهم الدروس والعبر من أحداث البطولة ونتائجها.. وربما كان اللاعب الأرجنتيني ليونيل ميسي، هو أكثر من يستحق أن نتوقف عنده؛ ليس لمهاراته الرائعة التي يحلو للبعض الجزم بأنها غير مسبوقة وبلا نظير؛ ولكن لأنه يمثل نموذجا لقدرة الإنسان على تحدي أصعب الظروف لتحقيق هدفه.. لقد ظن البعض أن مغادرة ميسي لبرشلونة هي النهاية الأسوأ له.. ومع مبارياته الأولى في باريس، تأكدت تلك الرؤية لدى الكثيرين؛ فلم يُمثّل ليونيل إضافة حقيقية للفريق المتخم بالنجوم.. بدا الأمر كما أنه يسير بخطوات متسارعة نحو تقاعد إجباري.. لكن ميسي رأى أن لديه فرصة أخيرة، يقوم من أجل نيلها من الرماد كأبطال الميثولوجيا الإغريقية.. تلك الفرصة التي ستكون بمثابة طوق النجاة له وتتويج لمسيرته – الحافلة بالعثرات- مع منتخب بلاده الذي لم يعرف طعم التتويج بالكأس العالمية، منذ أن جلبها مارادونا قبل ست وثلاثين سنة.. مشاركته في قطر هي الخامسة، كانت مشاركته الأولى قبل ستة عشر عاما في مونديال ألمانيا التي أخرجت بلاده من دور الثمانية بركلات الترجيح، وفي جنوب إفريقيا تكرر الخروج على يد الألمان برباعية نظيفة في الدور نفسه، وفي البرازيل جمع النهائي الفريقين، وكان ميسي قاب قوسين من تحقيق حلمه، لكن الألمان حصدوا الكأس بهدف دون رد.. وفي روسيا أخرجه الفرنسيون من دور الستة عشر بعد مباراة ملحمية بنتيجة أربعة لثلاثة.
وفي قطر لم تتخل البدايات الدراماتيكية عن ميسي، ووجهت له صفعة قوية بالخسارة في المباراة الأولى أمام السعودية بهدفين لهدف.. وفي اللقاء التالي أمام المكسيك تأخر الهدف للدقيقة الرابعة والستين، حين عانقت كرة ليونيل الشباك آتية من خارج منطقة الجزاء لتغالط أوتشوا، أرضية على يساره، قبل أن يضيف إنزو فرنانديز هدفا آخر قبيل النهاية بثلاث دقائق إثر مراوغة فتحت الطريق أمامه، ليضع كرته في المقص الأيسر، حيث يسكن الشيطان!
وفي المباراة الثالثة عبر ميسي ورفاقه قنطرة بولندا بسلاسة بهدفين دون رد بتوقيع أليكسيس ماك اليستير في الدقيقة السادسة والأربعين وجوليان ألفاريز في الدقيقة السابعة والستين.
وفي مباراة دور الستة عشر أمام أستراليا.. تألق ميسي وصال وجال وأحرز هدف التقدم من تسديدة أرضية غالطت الحارس ومرت على يمينه.. وأحرز الهدف الثاني ألفاريز، قبل أن يحرز فرنانديز هدفا عكسيا في مرماه لصالح أستراليا لتنتهي المباراة بهدفين لهدف.
ويتواصل تألق ليونيل أمام الطواحين التي حوّلت تأخرا بهدفين لمولينا وميسي إلى تعادل مستحق، قبل أن تسقط بركلات الترجيح؛ مفسحة الطريق لميسي للوصول لنصف النهائي.
كان اللقاء مع كرواتيا المتأهلة بعد مباراتين ماراثونيتين أمام اليابان والبرازيل.. ما جعل الكروات في حالة تراجع بدني واضحة ساهمت بشكل كبير في سقوط لوكا ورفاقه بالثلاثة أمام الأرجنتين.. وظهر ميسي في أفضل حالاته، أحرز الهدف الأول من ضربة جزاء في الدقيقة الرابعة والثلاثين، وصنع الهدف الثالث لألفاريز بعد فاصل رائع من المراوغة، وكان ألفاريز قد أحرز الهدف الثاني الذي جاء من هجمة مرتدة بعد أن تسلم الكرة وانطلق بسرعته تجاه المرمى، وتوغل داخل منطقة الجزاء، وسدد على يمين الحارس دومنيك ليفاكوفيتش داخل الشباك.
الأرجنتين في النهائي مجددا.. وميسي بركبة مصابة وإجهاد كبير، سيكون حاضرا.. لن يفوّت ابن روساريو الفرصة هذه المرة.. سيحمل أعوامه الخمسة والثلاثين أو يضعها على كرسٍ متحرك ويدفعها نحو ملعب لوسيل بكل ما بقي لديه من إصرار.. من الجائز جدا أن يكون البرغوث قد وصل مع الساحرة المستديرة إلى حالة من التوحد؛ تختفي معها كل آلام الجسد، لتصبح دون وزن حقيقي في معادلة بلوغ المجد.. لا مبالغة في ذلك والأمثلة كثيرة.. لقد بذل ميسي جهدا رهيبا في المباريات الست التي لعبها.. كأنه في العشرين من عمره.. يركض في شوارع مدينته المعروفة للكافة بأنها أخطر مدينة في العالم.. أمام فرنسا بكل نجومها الاستثنائيين جيرو وجريزمان ومبابي.. في مواجهة هوجو لوريس المقاتل، أفضل حراس العالم بلا منافس.. سيكون ميسي على أهبة الاستعداد لإحباط كل خطط ديشامب المفسدة للمتعة الكروية على أمل حصد الكأس الثانية تواليا.. سيصل التحدي غدا إلى ذروته.. ولا يمكن القطع بالنتائج.. لكن العدالة الكروية تقتضي أن يرقع هذا الجلّاد الكأس.. هو يستحق هذه المرّة.. لا سبيل إلى إنكار ذلك حتى لو أبغضناه من أعماق قلوبنا لتوجهات غير إنسانية خارج المستطيل الأخضر.. في الحقيقة هو بلا وجود متحقق خارج هذه المساحة.. تلك أمور لا يُعوّل عليها إذن.. الكأس الذهبية هي النهاية المنطقية الوحيدة لقصة ملهمة.. غدا في لوسيل لا بد أن تضرب الصاعقة البساط الأخضر دون هوادة لترفع ميسي إلى منصة التتويج.. أما إذا حدث خلاف ذلك.. فهي المأساة الإغريقية للبطل المأسور في ربقة الصعود المتكرر، لعنة سيزيف الابدية .. ولن يكون مستبعدا حينها أن نرى ليونيل بأعوامه الأربعين يخطر في ملاعب البطولة، بعد سنوات أربع من الانتظار القاسي.. انتظار رهيب يكون بمثابة عقاب فادح لإفلات لحظة استشهاد مستحقة على منصة التتويج.