رؤى

المُثنى بن حارثة.. فارس بني شيبان.. بطل “البويب”

أربع سنوات وقيل خمس لا أكثر هي عمره في الإسلام، أسلم المثنى في العام التاسع للهجرة، وقضى في رمضان من العام الثالث عشر أو الرابع عشر على أصح الأقوال.. لكن المثنى كان من ذلك الصنف من الرجال الذين لا يحدهم الزمن، ولا تقيدهم الحادثات.. فما زالت سيرته تتوهج بضياء التفرد إلى يوم الناس.. فأي رجل كان؟!

ذكر ابن الأثير أن الإسلام جاء “وليس في الغرب أعز دارا ولا أمنع جارا ولا أكثر حليفا من شيبان”.

وبنو شيبان هؤلاء لهم في سجل البطولة صفحات، أشهرها يوم ذي قار حين أعملوا سيوفهم في رقاب الفرس، وجندلوا صناديدهم وزلزلوا عرش كسرى، وقد وصف الرسول الأعظم هذا اليوم بقوله: “إن هذا لأول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نُصروا”.

لكن المثنى لم يكتف بيوم ذي قار، وأراد أن يكون له يوم آخر تتغنى به العرب، فكان يوم الفرات.. حينها كان المثنى سيد قومه، وزعيم عشيرته الذي بيده مقاليد السلم والحرب، وكانت مضارب بني تغلب بالقرب من الفرات، وكان بين العشيرتين ما كان من عوامل التناحر والإحن.. فأغار عليهم المثنى وظفر بهم وانتصر عليهم وقتل رجالهم وأغرق كثيرين منهم في الفرات، وساق أنعامهم وأخذ أموالهم فقسمها بين أصحابه.. وكان انتصاره يوم الفرات حدثا تاريخيا يذكر به العرب.

وكان إسلام شيبان في العام التاسع الهجري المسمى بعام الوفود، وكان المثنى وزوجته سلمى بنت حفصة من ضمن الوفد.. وقد أرسل رسول الله معهم العلاء بن الحضرمي ليعلمهم أمور دينهم.

وعندما توفي رسول الله وارتدت العرب، عقد أبو بكر أحد عشر لواء لحرب المرتدين، منهم لواء العلاء الذي حارب تحته المثنى، وأبلى بلاء حسنا، فرد الله به كيد الخائنين؛ بعد أن قطع بقواته إمدادات الفرس للمرتدين على طول خليج البصرة.

في تلك الآونة كانت أرض السواد بالعراق تحت حكم الفرس، وكان أكثر أهلها من العرب، فأبت عزة القائد العربي المثنى بن حارثة أن تظل بلاد العرب تحت حكم الفرس الذين كانوا يتفننون في إيذاء العرب وإذلالهم.

وكان تحت قيادة المثنى جيش قوامه ثمانية آلاف مقاتل من بني شيبان، فبدأ بشن الغارات على المدن الفارسية، وحقق عددا من الانتصارات في دهشتاباذ ومدينة الأبلة والقطيف وهجر.. ويلغ المثنى بقواته مصب دجلة والفرات، وقضى على الفرس وعمالهم.

ثم كان قدومه المدينة للقاء أبي بكر، للتباحث حول الموقف العسكري في بلاد العراق، وما يمكن عمله للقضاء على الخطر الفارسي.. فاجتمع أبو بكر بأصحاب رسول الله ليشاورهم في الأمر، فاتفقوا على الأخذ برأي خالد بن الوليد فيما عرضه المثنى، فاستدعي خالد وكان باليمامة، فحضر على الفور، وكان رأيه مطابقا لرأي المثنى، فبارك خليفة رسول الله المخطط وعقد للمثنى لواء الإمارة وكتب له عهدا بذلك.

وما إن عاد المثنى إلى معسكره، حتى لحق به خالد بن الوليد في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، واجتمع الجيشان تحت قيادة ابن الوليد، وتنازل المثنى عن القيادة دون ضجيج، ورضي أن يعود جنديا بين صفوف الجيش، فالغاية ليست الدنيا؛ إنما مرضاة الله والجنة.

ثم كان اختيار خالد له ليكون قائدا لمقدمة الجيش في أولى المعارك مع قوات الفرس بقيادة هرمز، وقد أنعم الله بالنصر على المسلمين.

وتوالت انتصارات العرب حتى فتح الله عليهم كامل أرض العراق، وتعددت المواجهات مع الفرس إلى أن كانت المواجهات المتوالية بين الفريقين في شعبان من العام الثالث عشر من الهجرة، حين استطاع المسلمون تحقيق عدة انتصارات بقيادة أبي عبيد الثقفي؛ لكن الهزيمة حاقت بالمسلمين في المعركة المسماة بالجسر، حين خالف أبو عبيد إجماع مجلس الحرب، على عدم العبور بالقوات إلى الضفة الأخرى من الفرات، وكذلك عدم تحوطه في الحديث عن الأسرار العسكرية أمام رسل بهمن جاذويه قائد الفرس، فكانت الهزيمة التي فقد جيش المسلمين فيها نحوا من أربعة آلاف مقاتل.

وبعد استشهاد أبي عبيد ومن عينهم من بعده آلت الأمور إلى المثنى بن حارثة الذي أسرع بتنظيم انسحاب تكتيكي عبر الجسر، وكان هو ومعه رجال من خاصته هم من تكفلوا بحماية الجسر أثناء عملية الانسحاب، وكان ورجاله آخر العائدين.

كان وقع تلك الهزيمة على المسلمين في المدينة وسائر حواضر الإسلام مريرا، خاصة أنها كانت الهزيمة الأولى في مواجهة الفرس، فأعلن عمر بن الحطاب النفير العام.. ولم تكن الاستجابة التي أبداها المسلمون كافية.

استطاع المثنى تنظيم ما بقي من الجند، وكانوا نحوا من ألفي مقاتل، واستطاعوا مهاجمة قوة من الفرس كانت تسعى لتأمين منطقة تسمى الحفير.. ففاجأهم المسلمون وأعملوا في رقابهم السيف عند بلدة تسمى أليس التي كان ابن الوليد قد هزم الفرس عندها من قبل هزيمة منكرة.

“ويأتي لعمر بن الخطاب بعد أن أعلن الاستنفار العام، جرير بن عبد الله وهو أحد صحابة النبي، وكان في الشام مع الجيوش الإسلامية الموجودة هناك، ولما علم بأمر موقعة الجسر أتى من فوره بعد أن استأذن قائدَه في الشام، وطلب أن يأتي بقبيلته (بجيلة) للمشاركة في حرب الفرس. وبجيلة هذه كانت إحدى قبائل العرب الموجودة في اليمن، ولما حدث انهيار سد مأرب وفرّت معظم القبائل من اليمن، سكنت كل منها في مكان، وتفرقت قبيلة بجيلة وسكن أهلها كلٌّ في مكان، فاستأذن جرير أن يجمع بجيلة وكان ذا رأي فيها، ويأذن له عمر لصعوبة الموقف، وقبل ذلك بعام رفض أبو بكر هذا الطلب من جرير، وأمره بالذهاب للقتال مع خالد.

انطلق جرير في جميع أنحاء الجزيرة العربية يجوب القبائل مجمِّعًا قبيلته، ومحمِّسًا لهم بأنه لا تُؤتى العرب وبجيلة بينهم، وظل يستثيرهم بهذا الأمر حتى جُمِع له منهم ألفان، وهو عدد ضخم جدًّا مقارنة بالعدد الذي خرج من المسلمين بعد استنفار عمر بن الخطاب للمسلمين ثلاثة أيام دون أن يخرج أحد إلا بعد ذلك، فقد خرج ألف فقط من المسلمين”.

واجتمعت الجموع تحت قيادة المثنى بمنطقةٍ البويب بشرقي نهر الفرات، وهو الموضع الذي اختاره المثنى بنفسه ليكون ميدانا للمعركة، بعد أن كان معسكره بمنطقة تُسمَّى مرج السباخ، بين القادسيَّة وخفَّان.

وعندما وصل مهران قائد الفرس بقواته إلى غرب النهر، راسل المثنى بخطاب جاء فيه: “إمَّا أن تعبر إلينا، وإمَّا أن نعبر إليك”. فكان رد المثنى: “اعبروا”.

أحسن المثنى ترتيب قواته خاصة الصفوف الأمامية، وعندما عبر الفرس اضطرهم المسلمون إلى مساحة ضيقة من الأرض كانوا فيها شبه محاصرين، والتحم الطرفان في قتالٍ شديد، واستطاع الفرس صدَّ ضربات المسلمين في بداية القتال، ولمـَّا امتدَّ القتال لوقتٍ كبيرٍ سدَّد المثنَّى ضرباتٍ مباشرةً قادها هو بنفسه لقلب الجيش الفارسي، الذي كان يوجد فيه مهران قائد الفرس، حتى تقهقر مهران من القلب إلى ميمنته، واستطاع أحد المسلمين قتل مهران، وكان لقتله أثرٌ كبيرٌ على الفرس، واختلف المسلمون بعد المعركة فيمن قتله، والأقرب أنَّه قد اشترك كلٌّ من جرير بن عبد الله ، والمنذر بن حسَّان في قتله.

ثم كان النصر حليف المسلمين بعد أن قطع المثنى على فلول الفرس طريق العودة، وقطع الجسر وأبادهم عن آخرهم، وقيل أنه ندم على ذلك ورأى أنه كان أولى به أن يتركهم عندما آثروا الفرار، لكن ذلك القول لا سند له من الناحية الاستراتيجية لخطورة ترك تلك القوات لتعبرالفرات، وتنظم صفوفها وتعاود الهجوم على جيش المسلمين.

وكان المثنَّى رضي الله عنه قد أُصيب بجراحاتٍ كثيرةٍ في بدنه في موقعة الجسر وظلَّ متأثِّرًا بها طوال هذه الفترة، فاختاره الله تعالى إلى جواره سنة أربعة عشرة من الهجرة.. بعد أن أقدم أروع صور التضحية والفداء وإنكار الذات، كما أظهر براعة في فنون القتال والتخطيط الحربي.. قلما نجد لها نظير.. رضي الله عن المثنى بن حارثة فارس بني شيبان.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock