بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن صحيفة عُمان
تجمعت في الشهرين الأخيرين مجموعة من الأحداث والظواهر كانت تتدفق كلها روافدا تصب في نهر السؤال المعلق والمشهر فوق الرقاب منذ أكثر من أربعة عقود المتعلق بالخطر الذي يتهدد “الهوية العربية للخليج”.
أول هذه الأحداث بترتيبها الزمني كان انعقاد بطولة كأس العالم لأول مرة في دولة إسلامية وعربية وخليجية وهي قطر وما أثبته من قوة المشاعر العروبية لدي كل الشعوب العربية وفي مقدمتها شعوب الخليج تمثلت في الانتصار الشعبي الحماسي على إمتداد الارض العربية لكل منتخب عربي شارك في البطولة وفي تأكيد مركزية القضية الفلسطينية ورفض أي تطبيع مع إسرائيل بمقاطعة إعلامييه ووسائل إعلامه التي تواجدت في الدوحة لتغطية الحدث الرياضي الأهم. “راجع مقالي علي جريدة عمان: مونديال قطر: إعادة الاعتبار للعروبة وفلسطين وقادة المستقبل”.
ثاني هذه الأحداث هو قرار مجلس الشوري العماني بفرض قيود صارمة على أي تطبيع مع الكيان الاسرائيلي وعدم ترك ثقب إبرة يتسلل منها هذا التطبيع الخبيث مادام هذا الكيان الإحتلالي العنصري مستمرا في إحتلال الأراضي العربية بعد 1967 ورافضا لإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. وقد كرس هذا القرار الهوية الراسخة للمجتمع العماني كشعب عربي أصيل رمى بسهم وافر في بناء الحضارة العربية الاسلامية على مدار التاريخ وجري تثبيت هذه الهوية بوعي شديد كركيزة من أهم ركائز نهضته الحديثة والمتجددة منذ عام 1970 وحتى الآن.
ثالث هذا الأحداث هو إعلان المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة في الثالث من يناير الجاري عن نتائج المؤشر العربي لعام 2022 وهو استطلاع رأي يجريه سنويا منذ عام 2011 على عينات ممثلة لمجتمعها في 14دولة عربية (منها ثلاث دول خليجية هي قطر والكويت والسعودية) ومن بين كل المؤشرات التي يكشف الاستطلاع فيها علي تباينات كبيرة بين المجتمعات العربية فإن هناك شبه إجماع “80%“بين المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج على أن سكان الوطن العربي يمثلون أمة واحدة بثقافة ولغة وهوية مشتركة. وإجماع آخر بنسبة “84%” على تحديد مصدر التهديد الرئيس على هذه الأمة وعلى هذه الهوية الجامعة إذ اعتبر المواطنون العرب أن إسرائيل هي أكبر تهديد لأمن المنطقة العربية.
كل هذه المؤشرات تنبئ بأن الهوية العربية لدي شعوب دول مجلس التعاون قوية ومتجذرة وأنه عندما يظهر الحدث الذي يكشف هذا الانتماء فإنه يعبر عن نفسه بصورة قاطعة لا تدع مجالا للمزايدة أو المكابرة. وتدخل الطمأنينة إلى النفس.
لكن الطمأنينة سرعان ما غادرتني عندما تصادف أن صديقا كبيرا وعزيزا ذكرني هذا الاسبوع على “الواتس آب” بمقال بالغ الأهمية للأكاديمي الإماراتي الراحل د. حسين غباش كان قد نشره منذ أكثر من عشر سنوات وأثار اهتماما واستحسانا لدي الرأي العام وقتها عن الخطر الذي يتهدد الهوية العربية للخليج بسبب الحضور الطاغي المتفوق عدديا للعمالة الآسيوية في دول مجلس التعاون الخليجي وتطور أدوارها كيفيا من أدوار العمالة البسيطة إلى الإمساك بمفاصل مهمة في الإقتصاد فهم الآن كما يقول “مدراء البنوك وشركات التأمين، وهم التجار المتربعون على كل أنواع التجارة الكبيرة منها والصغيرة، ومنها تجارة الأغذية والأدوية والملابس والالكترونيات”.
فالمشكلة الحقيقية لا تكمن في عدم دقة ما قاله الرجل عن هذا الخطر الداهم على الهوية الوطنية والقومية من ما أسماه بالإستيطان الآسيوي ولكن في حقيقة أنه مابين الوقت الذي كتب فيه هذا المقال ـ منذ اكثر من عشر سنوات – علي طريقة زرقاء اليمامة وهي تحذر قومها ولم يصدقوها فإنه قد جرت مياه كثيرة تحت الجسور تجعل من هذا الخطر على المدي الطويل أحد أكبر التحديات الإستراتيجية التي تواجه صناع القرار في دول المنطقة.
هذه المياه لم تكن تدفقا عاديا بل سيولا جارفة قادرة على تغيير موازين القوي أي من ذلك النوع من التطورات أو التحولات التي يترتب عليها إعادة رسم الخرائط وأوزان القوي نكتفي فيهذا المقال بحصر ثلاثة منها:
التحول الأول تحول إقتصادي جبار:
لم يشهد مقال غباش اكتمال التحول الإقتصادي العظيم الذي حققته الإقتصادات الآسيوية عامة والهند وشبه القارة الهندية خصوصا وهي من هي أي مركز الخزان البشري الذي تتدفق منه الغالبية الساحقة من العمالة الآسيوية في الخليج. تحتل الهند في 2022 المرتبة الخامسة عالميا متفوقة بناتجها المحلي الاجمالي في الترتيب علي روسيا وكندا وايطاليا وفرنسا وحتى على بريطانيا دولتها الاستعمارية القديمة. وكما حدث مع المعجزة الصينية الاقتصادية وكما حدث من قبلها لدول الخليج نفسها بصور متفاوتة منذ فورة أسعار النفط بعد حرب 1973إذ مع تراكم فوائض مالية كبيرة يبدأ البحث عن أسواق للاستثمار في كل مكان في العالم خاصة الاقرب لوجيستيا.
وقريبا – بل بدأ نسبيا فعلا ـ في التدفق تيار أموال من شبه القارة الهندية إلي منطقة الخليج وهنا لن يصبح الأمر مجرد حضور سكاني آسيوي بل حضور إستثماري متغلغل في كل قطاعات الاقتصاد في الخليج أي سيكتسب التفوق الديموجرافي نفوذا ماليا وإستثماريا يجعل من إحتمالات تحويل الوجود المؤقت للمساعدة في عملية التنمية في دول الخليج الي استيطان دائم للحفاظ على المشاريع والملكية وقد تصبح مسألة المطالبة بالمواطنة الكاملة والتجنيس مسألة وقت كما نبه قبل سنوات المفكر العروبي البحريني علي فخرو.
التحول الثاني تحول سياسي كبير
في السنوات العشر الأخيرة حدث تحولان سياسيان كبيران الأول هو تحول الهند بفضل قوتها الإقتصادية من قوة إقليمية متوسطة إلي قوة إقليمية – دولية كبيرة واقترن هذا التحول بتغيير جوهري في سياسة الهند الخارجية دوليا وإقليميا. في السياسة الدولية بدأت الهند في مفارقة الإرث التاريخي لحزب المؤتمر، مؤسس الهند المستقلة والمعاصرة والانتقال من عدو للغرب إلي صديق (يسعي الأمريكيون والأوربيون واليابانيون بكل قوة لتحويله إلى حليف) ورغم إستمرار الهند في علاقاتها التقليدية مع موسكو أحد أهم موردي السلاح والطاقة الرخيصة لها فإن الحكومة القومية اليمينية لحزب بهاراتيا جاناتا تتجه تدريجيا في العلاقات الدولية غربا خاصة مع تصاعد حدة الصراع الإستراتيجي بين الغرب والصين خصم نيودلهي الحدودي والإقليمي التاريخي المزمن وتقارب بكين الكبير مع موسكو.
وفي السياسة الإقليمية غيرت نيودلهي البندقية من كتف إلى أخرى وتحولت الهند من أكبر أصدقاء العرب والقضية الفلسطينية إلي صديق وثيق لإسرائيل ورفعت الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الهندي مودي لإسرائيل وهي غير المسبوقة في تاريخ العلاقات رفعت هذه العلاقات إلي مستوى جديد تماما خاصة في المجالات الحساسة والاستراتيجية الطابع في المجالات العسكرية والأمنية والتقنية. هذا التحول في اتجاه القلب الهندي تجاه المنطقة العربية جاوره تطور لا يقل خطورة هو تزايد الحضور الإقتصادي والسياسي الإسرائيلي في منطقة الخليج، بعد اتفاقات إبراهام. ومع وجود حكومتين يمنيتين قوميتين متشددتين في السلطة في البلدين فإن احتمالات تخليق مصالح مشتركة من وجودهما في المنطقة لا يمكن إستبعاده خاصة وأن الهدف الإستراتيجي لإسرائيل هو إنها فكرة العروبة والهوية الجامعة للشعوب والبلدان العربية والتعاملات كل واحدة منها علي حدة.
التحول الثالث: تزايد التوظيف الغربي والأمريكي لقضايا حقوق الإنسان كأدوات ضغط سياسية علي دول محتلفة خاصة الدول العربية، إذ إزداد في السنوات العشر الأخيرة التوظيف السياسي من قبل السياسة الأمريكية والغربية لملفات حقوق الإنسان والديمقراطية التي تواجه مشكلات عدة في العالم العربي ودول الجنوب عموما. وإذا طورت دول الخليج توجهها الراهن الي سياسة مستقرة في عدم الاكتفاء بأمريكا وأوروبا والانفتاح على الصين وروسيا فإن استخدام هذه الملفات بما في ذلك حقوق العمالة الآسيوية هو إحتمال لايمكن استبعاده أيضا. ولعل الحملة المسعورة على قطر في مرحلة ما قبل انعقاد كأس العالم وأثناء انعقادها بخصوص ظروف عمل العمالة الآسيوية في عمليات إنشاء مرافق البنية التحتية لهذه البطولة لدليل واضح على حضور هذه الورقة من أوراق الضغط في المستقبل وقد تتوافق في استعمالها في لحظة تاريخية معينة مصالح الغرب والقوى الآسيوية الصاعدة وإسرائيل.