لا يحتفظ لنا التاريخ عادة في المشاهد الكبرى إلا بما أملته رؤية المتغلب، ولا يخبرنا إلا بما أملته السيوف المضرجة بدماء المهزومين، فمن دالت دولهم لم يكن لديهم فسحة من الوقت لتصحيح الوقائع وتدقيق الأحداث، ولذلك لا يجب علينا أن تعامل مع صفحات التاريخ بتلك البراءة التي من شأنها أن تسلمنا لكثير من الأغاليط والترهات، ولذلك أيضا نقول أنَّ الوقائع التي تُستقى من معين واحد يجب أن تكون محل شك لا تسليم.
ولعل ما حال بين المتغلبين وتزوير التاريخ جملة أنَّ سياقات الأحداث لا يمكن اجتزاؤها بالكلية من سوابقها، ومن ثم لواحقها، فتظهر تلك السياقات وقد انبتت عن هذه وتلك، فتصبح – في أحيان كثيرة- عارية مما يمت للحقيقة بصلة، ناتئة عن كل ما يمنحها، ولو قدرا قليلا من قابلية التصديق. ولقد عمد كثير من المؤرخين إلى حيل لا تبتعد بهم عن مواطن الشبهات؛ منها الانتقاء والاجتزاء فرأيناهم يغضون الطرف عن أحداث بعينها، بشكل يبعث على الريبة، أو يخالف الواحد منهم منهجه في التأريخ، والمتعارف عليه في تدوين الآثار، فيظهر العوار فَجًا فيما وضع من مؤلفات وأعمال.
“المعاصرة حجاب” قول حمل أكثر من معنى، وذهب المفسرون فيه كل مذهب.. لذلك يقطع كثيرون من اهل الاختصاص إلى أن التأريخ لأي حدث لابد أن يكون بعد مُضي زمن كاف على وقوعه، تكون الحقائق قد تكشّفت فيه، وانقشعت الغيوم عن ملابساته، فنحن فيما نعاين من أحداث ووقائع لا يتسنى لنا غالبا التثبت من بعض الحقائق، إذ أن كثيرا منها لا تتضح أركانه وأسبابه ودوافع أطرافه بجلاء إلى بعد حين، وربما تتحول بعض الوقائع إلى ألغاز تستعصي على الفهم لأمد بعيد، وإذا كان هذا هو حالنا مع كثير مما نراه من الوقائع؛ أليس الأولى بنا أن نُقيم رأينا في المدون من التاريخ على حافة الشك.. قُرب الظن.. لصيق الارتياب!
كيف تحدث المُخَاتَلات التاريخية؟
تبدأ المراوغة التاريخية -إذا جازت التسمية- من إحداث حالة من الارتباك، تبدأ بتسمية الأحداث والأشياء والاشخاص على غير مُسمّى.. ومع تعدد المسميات للحدث الواحد ينجم الخلاف الذي يضفي شرعية منهجية على تلك التباينات الفاضحة.. حتى أن البعض مازال يراوح في مربع التمييز إجرائيا بين مفهوم الغزو، وماهية الفتح دون النظر في مآلات الحدث وتداعياته! وينتقل ذلك إلى إسقاط المسمى الفقهي على الفعل التاريخي؛ فتختلط مفاهيم الغنيمة والفيء مع السلب والنهب، وصولا إلى التغني بإفناء الحواضر وإهلاك الحرث والنسل.. والأمثلة في ذلك تجل عن الحصر؛ فيصير الانتقام الشنيع ظهورا، وسفك الدماء دون حساب بطولة، وهدم أسوار “الكعبة” له ما يبرره من الضرورة التي أباحت كل محذور، ليصبح بطش المتغلب مجرد آليات لإقرار الأمن وتأديب الخارجين؛ حتى وصف إمام الجور في أكثر من زمان ومكان بالمستبد العادل!
يقول غوستاف لوبون: ما عرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب. وربما كان لهذا القول ما يؤيده من وقائع التاريخ في عديد من رواياته التي اُتفق على صحتها، لكن الرحمة هنا والتي جاءت في صيغة أفعل تفضيل، تجعلنا أمام رحمةٍ نسبيةٍ تقاس إلى غيرها، وليس أمام رحمة مطلقة تقوم بذاتها، فالعرب كانوا رحماء في تعاملهم مع الأمم المغلوبة قياسا بغيرهم من الغزاة الذين كانوا يتسلَّطون على الحواضر سلبا ونهبا وتدميرا حتى لا يُرى فيها طائر يرف بجناحه، وفق رؤى استندت إلى النصوص الدينية مثل ما ورد في سفر يشوع 11: 10-12 “وَضَرَبُوا كُلَّ نَفْسٍ بِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. حَرَّمُوهُمْ. وَلَمْ تَبْقَ نَسَمَةٌ. وَأَحْرَقَ حَاصُورَ بِالنَّارِ. فَأَخَذَ يَشُوعُ كُلَّ مُدُنِ أُولَئِكَ الْمُلُوكِ وَجَمِيعَ مُلُوكِهَا وَضَرَبَهُمْ بِحَدِّ السَّيْفِ. حَرَّمَهُمْ كَمَا أَمَرَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ.
وفي سفر صموئيل الأول 15: 3 – 11 “فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً طِفْلاً وَرَضِيعاً, بَقَراً وَغَنَماً, جَمَلاً وَحِمَاراً وَأَمْسَكَ أَجَاجَ مَلِكَ عَمَالِيقَ حَيّاً, وَحَرَّمَ جَمِيعَ الشَّعْبِ بِحَدِّ السَّيْفِ”
وكما في سفر يشوع 6: 22-24 ” وَأَخَذُوا الْمَدِينَةَ. وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ, مِنْ طِفْلٍ وَشَيْخٍ – حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ. … وَأَحْرَقُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ مَعَ كُلِّ مَا بِهَا. إِنَّمَا الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ وَآنِيَةُ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ جَعَلُوهَا فِي خِزَانَةِ بَيْتِ الرَّبِّ”.
وغيرها من النصوص التي تؤكد أن الإبادة التامة كانت مصير الأمم المغلوبة، فلا يستبعد أن رحمة الفاتحين العرب بغيرهم- ربما- كانت هي عدم وصولهم إلى هذه الدرجة من الوحشية والإجرام الذي تجرعته البشرية عبر آلاف السنين، مدعوما بنصوص تتحصن بالقداسة وبرعاية “رب الجنود”!
وقد كانت وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم- للمقاتلين قبل انطلاقهم لميادين القتال: “انطلقوا باسْمِ الله وَبالله وَعَلَى مِلّةِ رَسُولِ الله، وَلا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً وَلاَ طِفْلاً وَلا صَغيراً وَلا امْرَأةً، وَلا تَغُلّوا وَضُمّوا غَنَائِمَكُم وَأصْلِحُوا وَأحْسِنُوا إنّ الله يُحِبّ المُحْسِنِينَ” زيادة الجامع الصغير- للإمام السيوطي.
فإذا كانت هذه هي وصية النبي العربي، فهل التزم بها قادة الجيوش العربية وأجنادها، أم أن مصادر عديدة تؤكد أن ذلك لم يكن محل التزام تام أكثر من مرة؟
إنَّ كثيرا من الراويات التي بين أيدينا والتي تدعم مقولة غوستاف لوبون، نجد لها نقيضا في مصادر أخرى، فعلى سبيل المثال يروي في تاريخ البطاركة أنَّ عَمْرًا بن العاص عندما دخل مصر قائدا لجيش الفاتحين استدعى الأب بنيامين الذي كان فارا من الرومان إلى مصر العليا لعشر سنين- وأعطاه العهد وأمَّنه وسلمه جميع البِيَع والأديرة، بل ومدحه قائلا لأصحابه وخواصه: “إنَّ في جميع الكور التي ملكناها ما رأيت رجل الله يشبه هذا” بينما نجد رواية أخرى لأسقف قبطي يدعى يوحنا من نيقوس تُجزمُ بأن عَمْرًا ارتكب ما لا يحصى من أعمال العنف، حتى دبَّ الذعر بين سكان مصر الذين هربوا صوب الإسكندرية تاركين أموالهم وقطعانهم، ليقوم المسلمون بمساعدة من بعض “المصريين الذين تركوا إيمانهم، وتبعوا إيمان هذا المخلوق الكريه -يقصد عَمْرًا- بالاستيلاء على كل ممتلكات المسيحيين الهاربين وأعلنوا أنَّ خدم المسيح هم أعداء الله”.
كذلك في اجتياح جيوش العثمانيين لمصر، وما ارتكب على أيديهم من فظائع وجرائم.. وثقت في بدائع الزهور لابن إياس وغيره من المؤلفات.. لنجد إلى وقتنا هذا من يرفض – من الأكاديميين وغيرهم- اسقاط مسمى الفتح عن هذا الفعل الشائن، الذي عُد مروقا سافرا عن قانون الدولة العثمانية المعمول به في هذا الوقت من حُرمة اجتياح وغزو بلاد المسلمين، ناهيك عن الدفاع المستميت عن ممارسات جعلت تلك الفترة هي الأسوأ في تاريخ مصر الحديث.
كذلك في كثير من أحداث الفتن التي تحرّج البعض من الخوض فيها، زاعمين أن النجاة في ذلك، ما أوصلهم لكتمان الشهادة والسكوت عن الحق الذي كان في كثير من تلك المواقف أوضح من ينكر أو يختلف بشأنه.. وليس ادل في هذا السياق من ذكر حديث الرسول عن عمَار بن ياسر “وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ” ومع ذلك فقد وجد أهل الباطل الصراح لهم مخرجا من هذا بقولهم “أَنَحْنُ قَتَلْنَاهُ ؟ إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ.. أخرجه وقدَّمَه إلى سيوفنا”.
إننا لسنا بصدد روايات تختلف في بعض التفاصيل، بل تتعارض كليا وينفي بعضها بعضا والأمثلة تجلُّ عن الحصر.. والخلاصة أنَّ التاريخ جُلُّه بين زائف ومتوهم وموضوع ومسكوت عنه؛ لذا فالتعامل معه لا ينبغي أن يكون تصديقا لما جاء به، بل تمحيصا لوقائعه، حتى يتسنى لنا الاعتبار به؛ وإلا فالانشغال بالحال والمآل أجدى من كل ذلك وأنفع.