فن

مسلسل “وبينا ميعاد” .. وتألق هاني كمال في الدراما الاجتماعية الهادفة

إذا تلبدت السماء ذات يومٍ بالغيوم، وأقفرت الحياة من بصيص ضوء؛ فسادت العتمة في إشارة إلى انقباض وجه السماء، الذي ينذر بإرسال ريح عاتية، قادرة على اقتلاع أضخم الأشجار وأكثرها ثباتًا  من جوف الأرض.. فهذا لا يعني أنه في يومٍ آخر لن تجود السماء بما تستبشر به النفوس المتشوقة إلى هطول الأمطار ونزول الغيث المُعلِن عن ميلاد لحظة الفرج التي تتفجر معها أحاسيس البهجة ومشاعر البشر والسرور والراحة. فترقُب الاتساع الذي بإمكانه إزاحة كل ضيق، وانتظار الانشراح القادر على قمع أي انقباض لا يعني سوى التعلق بسحب الأمل التي قد نراها لبرهة ما معتمة وقاتمة بينما لا نبصر حقيقة ما تخفيه لنا من بريقٍ للحياة تصورنا زمنًا أنه قداختفى ولن يعود.

وهكذا تبدو الدراما المصرية الهادفة، التي إذا ما غلب علينا الظن يومًا أن الجفاف قد تمكن منها؛ فإذا بزخات غيثها تتقطر على حين غفلة لتبشرنا بأنه ما زال هناك أمل في إنتاج أعمال درامية ترتقي بالذوق العام، وتحفز على التفكير والتغيير، وتحاول أن تصلح من آفات المجتمع التي تبدو مستعصية.

والسيناريست والمخرج الشاب هاني كمال هو أحد أولئك الذين يحرصون على تقديم هذا النوع من الدراما الهادفة للمشاهد المصري والعربي في محاولة جادة منه لعودة التآلف مع الصورة الدرامية الراقية بعدما نفر الكثيرون من كثرة مشاهد العنف الدموية ومناظر الانتقام المسرف في بشاعته، بالإضافة إلى محاصرة جمهور المشاهدين بالقصص التي إما أن تبالغ في تصوير البذخ الطبقي المفرط والمصحوب بالانحلال الأخلاقي والفساد المجتمعي الذي بات متلازمًا مع تناول الخمور وتعاطي المخدرات أو التجارة فيها، أو تتمادى في تجسيد مدى تدني الطبقات الدنيا وما وصلت إليه من انحلال وما تعانيه من سوء أخلاق وفقدان للأمل وتخبط في الحياة، فلا يجد المشاهد العادي في الدراما الاجتماعية ما يعبر عنه أو عما يرجوه لنفسه ويرتقي به وبمجتمعه.

لقد كانت تجربة هاني كمال في مسلسل (أبو العروسة) بأجزائه الثلاثة وعدد حلقاته الذي تجاوز المئة والخمسين حلقة هي التجربة التي وضعت أقدامه بثبات على سلم الدراما الاجتماعية والإنسانية الهادفة والقادرة على اجتذاب جميع أفراد الأسرة لمشاهدتها والاستمتاع بها. وقد أهَّله ذلك إلى صناعة مسلسله المعروض حاليًا (وبينا ميعاد) ليس فقط كمؤلف وسيناريست مبدع؛ ولكن أيضا كمخرج متميز. وبالفعل فقد نجح مع فريق العمل في صياغة عمل درامي راقٍ، وعلى درجة كبيرة من النضج والتمكن من أدوات صناعة العمل الفني الهادف. لذلك عليه ألَّا يتوقف عند هذا العمل، بل يجب أن يكون هو البداية لسلسلة من الأعمال الدرامية، التي تعيد تقديم صورة واقعية للأسرة المصرية، وتهدف إلى إبراز الجوانب الإنسانية، دون التخلي عن إيجاد حلول للمشاكل الحياتية المعاصرة، وذلك في إطار لا يخلو من التسلية، ولا يفتقد إلى الإتقان والإبداع والحرفية. وهذا بالفعل هو ما نجح فيه هاني كمال -حتى الآن- كي يكمل مسيرة من سبقوه من صناع الدراما المصرية ذات التأثير الإيجابي على المجتمع والتي كانت سائدة على كل ما دونها من أعمال رديئة وضعيفة.

إنه على مدار تاريخ الدراما المصرية؛ كانت تترات المسلسلات ذات تأثير بالغ على نجاحها، ومثلما كان تتر مسلسل أبو العروسة (قادرين يا دنيا) بصوت الفنان مدحت صالح وكلمات الشاعر سلطان صلاح وألحان خالد عز- من أهم عوامل نجاحه، لم يكن تتر المسلسل الحالي وبينا ميعاد الذي يحمل عنوان (عيش أيامك) أقل تأثيرًا منه.. فمن دفء اللحن وعذوبته في أغنيتي مسلسل أبو العروسة (قادرين يا دنيا، وحيطان بيتنا) اللتين استطاع فيهما الملحن خالد عز أن يترجم كلمات الشاعرين سلطان صلاح ونادر عبد الله، المليئة بالأمل والشجن؛ فنجحوا جميعًا في إدخال المُشاهد بسلاسة إلى حضن الأسرة؛ كي ينعم بالسكينة وراحة البال، فقد عُبّر عن الكلمات في تتري البداية والنهاية لمسلسل وبينا ميعاد بمنتهى الرشاقة والسلاسة، ما سمح للمشاهد بالإطلال هذه المرة على عالم أسرتين مصريتين؛ تفتقد إحداهما وجود الأم بعدما فارقت الحياة، بينما تفتقد الأسرة الأخرى وجود الأب الذي ترك الجَمل بكل حمولته للأم وحدها؛ وهرب من تحمّل المسئولية.

فكرة هذا المسلسل هي لإبراهيم حموده، وكُتبت تحت إشراف الكاتب والصحفي يسري الفخراني (رئيس المحتوى الدرامي بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) والذي اختار عنوان ذلك العمل. وهي تدور باختصار حول حال العابسين والمثقلين من فرط ضجيج الحياة المفعمة بالمسئوليات؛ خاصة تلك الملقاة على عاتق عائل الأسرة إذا كان يقوم بدور الأب والأم معًا ويفتقد إلى شريك لحياته يقاسمه أفراحها وأتراحها. وفي خضم ذلك يطرح المسلسل المشاكل العارضة التي يمر بها الأبناء في سن المراهقة والشباب وبعد تخرجهم في الجامعة وخوضهم الحياة العملية، وذلك من خلال الإطلال على الحياة الأسرية لأسرتين متشابهتين في الظروف، يجمعهما القدر في مدينة مزدحمة تتلاطم فيها أمواج الحياة التي لا ترحم من يجهل التعامل معها بمهارة.

يقدم المسلسل دعوة صريحة لحب الحياة، وعدم التفريط في بهجتها والتمسك بالسعادة، سواء بعدم الانغماس في مشاكلها التي لا تنتهي، أو بعدم التخلي عن صحبة أولئك الذين يعطون لها مذاقًا تسكن له النفس. فإذا كان الإنسان يسعى إلى السعادة فعليه أن يختار من الحياة ما يجعله سعيدًا وأن يترك ما يصيبه باليأس والإحباط، فمثلما ترتبط الحياة بالمسئولية فإن السعادة أيضًا تعتمد على الاختيار.

ولقد نجح صناع هذا العمل الدرامي الراقي، في اختيار الوجوه الجديدة من الفتيان والفتيات والأطفال الذين أسنِد إليهم أدوار الأبناء والبنات لكل من: المهندس (حسن) الذي جسَّده على الشاشة الفنان صبري فواز، وهو فنان متميز وممثل محنك يحرص على التنويع في أدواره والتجديد في شكله بما يتناسب مع الشخصية التي يتقمصها، وكذلك للمهندسة (نادية) التي قدمتها الفنانة شيرين رضا والتي كانت بالرغم من التزامها بطريقة أداء تفتقد إلى المزيد من الحرفية ومن التمكن في الأداء الصوتي والتعبير التمثيلي إلَّا إنها كانت مقنعة في مشاهد كثيرة وهي تجسد دور الأم العصرية التي تبدو صارمة وعابسة طوال الوقت.. ومع ذلك ما زالت تحمل قلبًا ينبض بالحب ويفتقد إلى المساندة الوجدانية في رحلة حياتها التي صمدت فيها وحدها بكل كبرياء وإصرار على النجاح وعدم الإخفاق.

وتدور أحداث المسلسل في جهة بين أسرة الأب، الذي يحاول أن يحنو على أبنائه المفتقدين لحنان الأم، ويسعى جاهدًا إلى إقناعهم بالأشياء التي يرى فيها النفع لهم عن طريق تقديم النصيحة، بدون أي تسلط أو قهر في معظم الأحيان، وفي جهة أخرى بين أسرة الأم التي تحاول أن تكون صارمة في تربية بناتها – طوال الوقت- كي تملأ الفراغ الشاغر الذي صنعه الأب بهجره لأسرته بدلًا من تحمل مسئولية رعاية بناته وحمايتهن؛ ولذلك فهي لا تجد أمامها سبيلًا لحمايتهن سوى إصدار الأوامر والتعليمات غير القابلة للمناقشة أو الاعتراض.

وفي غمار مشاكل الحياة وعدم التوقف لبرهة من أجل التقاط الأنفاس يكون البحث عن السعادة وعن حياة تتسم بالطمأنينة والسكينة هو المطلب المُلح على النفس مهما تغافلت عنه.

 وإذا كان السعداء بإمكانهم وحدهم دون غيرهم أن يبثوا السعادة في المحيط الذي يتواجدون فيه، فإن السعادة لا تعني الإفراط في الضحك المتواصل، ولكنها المقدرة على الاحتفاظ ببشاشة الوجه وسكينة النفس مهما تعاظمت الضغوط وتفاقمت المشكلات.. فليس هناك في الحياة من لا يعاني من مشكلة ما، أو يتكبد العناء بشكل أو بآخر، أو يتجرع حزنًا عارضًا أو ألمًا يشكو منه بسبب فقدان أو مرض أو إخفاق. لذلك لابد من توفر أسباب تدفع إلى المقاومة والتحدي، ولعله بإمكان الأبناء أن يبعثوا تلك الطاقة الإيجابية في آبائهم وأمهاتهم بين حينٍ وآخر، ولكن الصمود في ظل المعاناة النفسية قد لا يدوم طويلًا مهما تظاهر الإنسان بقوة عزيمته أو بقدرته على البقاء وحيدًا. وليس هذا الضعف البشري بنقيصة في الإنسان بقدر ما هو علامة على فطرته الطبيعية السوية وحاجته إلى أنيس يأنس بوجوده، وحبيب يحنو عليه ويضمد جراحه ويواسيه في لحظات ضعفه ويشعر بكل ما يختلج في نفسه؛ حتى لو لم يتفوه بكلمة واحدة. وهذا ما نجح بطلا العمل في التعبير عنه في مشهد الاعتراف بالحب الذي ظهر طبيعيًّا وواقعيًّا دون أن يفتقد إلى النضج أو الرقة.

لقد سلَّط هذا العمل الضوء على فكرة جودة الحياة، في ظل التضامن الأسري وضرورة التمسك بالقيم الأخلاقية التي يجب أن يلمسها النشء في محيط أسرهم، دون أن يلقنوا إيَّاها مثلما يلقنون المواد الدراسية في مراكز الدروس الخصوصية!

ولأن السعادة التي يمنحها الشعور بالحب لا تدوم؛ في ظل مواجهة مشكلات الحياة فلابد من خوض ذلك الصراع الذي يتبين من خلاله مدى تمسك الإنسان بحقه في حياة سعيدة مع من يحبهم؛ ليكتشف حدود التضحيات التي بإمكانه تقديمها. وما دامت الأسرة هي لبنة أي مجتمع فلن ينصلح حال المجتمع إلَّا بانصلاح حال الأسرة عندما يمتلك أفرادها القدرة على إصلاح أحوالهم بأنفسهم معتمدين على ذواتهم وغير منتظرين لمن يتكفل بهذا الأمر نيابة عنهم.

أما أهم ما يميز مسلسل (وبينا ميعاد) فهو التلقائية والبساطة وجمال الصورة، بالإضافة إلى ما يتمتع به من لمسات إنسانية، والكثير من الرسائل التي تهدف إلى إصلاح أحوال الأسر التي تعاني من التفكك والحرمان العاطفي؛ بسبب افتقاد الدور الفعال للآباء والأمهات في حياة الأبناء. كما لفت الانتباه أيضًا إلى أهمية دور الأصدقاء والأخوة وشركاء الحياة؛ بل والمعارف والجيران في حياة كل إنسان، وفي الارتقاء بالمجتمع. بالإضافة إلى حرص صناع العمل على تقديم صورة جيدة عن زوجة الأب وزوج الأم، وكيف يمكن أن تكون العلاقة طيبة بين الأب والأم بعد الانفصال.

هذا وقد كانت الأطر الفكاهية والغنائية والرومانسية التي صُبِغت بها أحداث ذلك العمل- قادرة على صناعة تلك الحالة من المتعة والتشويق والإثارة لجمهور المشاهدين؛ مهما اختلفت مراحلهم العمرية، فكان ذلك بمثابة عودة حميدة للدراما الأسرية الاجتماعية التي لا تنحصر في لون درامي واحد، ولا يملها المشاهد بسبب المط والتطويل.

وإذا كانت مصر قد احتفظت بالريادة في عالم الدراما على مستوى الوطن العربي على مدار عقود طويلة، فإنه بإمكانها الحفاظ على تلك الريادة المستحقة؛ بالرغم من المنافسة التي باتت شرسة بينها وبين دول عربية أخرى تنفق ببذخ على إنتاجها الدرامي، وذلك إذا استمرت مصر في إنتاج أعمال درامية مبتكرة تستحق المشاهدة أكثر من مرة ولا تجذب المشاهد لرؤيتها لمرة واحدة وفقط، وهذا يعني عدم التفريط في التمسك بإبراز القيم والمعاني التي يحتاجها المجتمع في الأعمال الدرامية المتقنة الصنع؛ لأن ذلك هو الذي يبقى في ذاكرة الدراما على مر الزمن، وليست الأعمال الدرامية المقتبسة من ثقافات مغايرة مهما قُلدت باحتراف.

لذلك علينا جميعًا أن نرحب بموهبة “هاني كمال” في التأليف والإخراج، وأن نقدم الشكر لكل من قدَّم الدعم له ولكل موهبة شابة ظهرت في هذا العمل الهادف، وكذلك لكل المشاركين فيه متمنين لهم جميعًا دوام التألق والنضج والإبداع.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock