رؤى

قضايا إسلامية: التخطيط.. والبعد المستقبلي في التنزيل الحكيم

رغم أهمية “التخطيط” كعملية مستقبلية، في حياة الإنسان والمجتمع؛ ورغم أن الكثير من الباحثين قد تناولها في ميادين بحثية مختلفة؛ إلا أن تناولها في علاقتها بـ”البعد المستقبلي”، في آيات التنزيل الحكيم، هي ـ جد ـ قليلة، وتحتاج إلى مزيد من البحث والجهد، لتبيان ما ورد في آيات الله البينات من دلالات تؤشر إلى التخطيط، بل والبعد المستقبلي وأهميته في حياة الإنسان والمجتمع.

ويكفي أن نبدأ حديثنا بـ”الْأَرْضُ”.. فهي واضحة وبارزة في القرآن الكريم، تقرن بـ”لفظ الجلالة: الله”، وذلك كما قوله سبحانه وتعالى: “قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ • سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” [المؤمنون: 84ـ85].. وفي قوله سبحانه: “إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ • رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ” [الصافات: 4-5].. وقوله تعالى: “فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” [الجاثية: 36].. بل إن لفظ الأرض قد ورد في القرآن مئات المرات (465 مرة)، معظمها بألف ولام التعريف (451 مرة)، دون ضمائر ملكية (453 مرة).

هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن “الأرض” ميدان للسعي والكد والكدح والعمل والإنتاج كـ”أبعاد مستقبلية”.. وهي مسألة ذات دلالة؛ إذ لا يوجد بعد مستقبلي بلا أرض تكون موضوعًا للتخطيط وتنمية الموارد لأجل احتياجات الإنسان المتجددة أبدًا.

وإضافة إلى أن صورة “جنات النعيم”، إنما جاءت في التنزيل الحكيم، على منوال “جنات الأرض”.. فإن القرآن يقدم لنا أكثر من مثال ذي دلالة تتعلق بـ”مضمون” التخطيط كعملية “مستقبلية”.

عملية التخطيط

يكفي أن نتأمل، كمثال، قوله سبحانه وتعالى:  “يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ • قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ • ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ • ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ” [يوسف: 46 ـ 49].. هنا يبدو تأويل يوسف (عليه السلام) لما رآه الملك في منامه: بضرورة الاستعداد في أعوام الرخاء لأعوام القحط بتخزين الحبوب.

ومن ثم، عبر تأمل هذا “المثال”، القرآني، يمكن تلمّس مفهوم المدخرات العينية؛ هذا بالإضافة إلى المدخرات المالية من الخراج والزكاة والصدقات. فكل ثمر يثمر له “حق” يؤدى وقت الحصاد، وكل أرض لها خراج، وكل مال عليه زكاة، ضد الجوع وسوء التغذية والقحط والفقر، أي: ضد “مفاجآت” المستقبل، أو بالأحرى: “استعدادًا للمستقبل”.

ويكفي أن نتأمل كمثال آخر، قوله سبحانه وتعالى: “وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ • ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [النحل: 68 ـ 69].. هنا يبدو كيف أن الله تبارك وتعالى قد ألهم النحل أمورًا ثلاثة: كيف يسكن، كيف يأكل، كيف يكون حرًا؛ ثم عقَّب سبحانه بأن الأمور الثلاثة هذه، متى تحققت في حياة النحل، فإن هذه “الحشرة” الصغيرة سوف تعطي للإنسانية والوجود الإنساني عسلًا مختلفًا ألوانه “فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ”.

وبالتالي، وعبر تأمل هذا “المثال”، القرآني، أو بالأصح: عبر “التفكر” في هذه “الآية”، الربانية، هل لنا أن نقول: هذا هو “مضمون التخطيط.. عند النحل”، أو أن نقول: دون ما امتلاك النحل لتلك “الكيفيات” الثلاث، ما كان ليستطيع أن يمتلك “المقدرة”، على أن يخرج من بطونه: “شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ”.

الوصول إلى الهدف، إذن لا يتم إلا عبر امتلاك المقدرة على الوصول إليه.. وأن هذه الأخيرة، المقدرة، لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال توفر “كيفيات” تحقيقها.

ثم يكفي أن نتأمل كمثال أخير، للدلالة على قولنا الأخير هذا، قصة موسى (عليه السلام)، والعبد الصالح، في سورة الكهف.. يقول سبحانه وتعالى “فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا” [الكهف: 77].. فماذا جاء على لسان العبد الصالح في تأويل هذا الحدث؟

يقول سبحانه: “وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا” [الكهف: 82].. وهنا يبدو بوضوح أن الإرادة الإلهية شاءت أن يظل الكنز مخفيًا، حتى يبلغ الغلامان “يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا” و”يَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا”.

وهكذا، وعبر تأمل هذا “المثال”، القرآني، يصح القول بأن استخراج الغلامين للكنز ما كان يمكن أن يتم، حسب الإرادة الإلهية، دون أن “يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا”، أي: دون أن يبلغا، حسب ما يشير إليه لفظ  أَشُدَّهُمَا”، من دلالات، المقدرة على استخراج الكنز، سواء كانت هذه المقدرة بدنية أو معرفية (في حال من الرشد). وينبغي أن نلاحظ هنا، أن تأويل العبد الصالح للحدث.. والذي مؤداه أن الغلامين: “يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا”، بناء على الإرادة الإلهية، وفي إطار “رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ”.. ليس تأويلًا شخصيًا من قبل العبد الصالح، ولكنه “علم”، من المولى عز وجل.. يقول سبحانه وتعالى، حول بداية اللقاء بين موسى (عليه السلام)، والعبد الصالح: “فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا” [الكهف: 65].

في هذا السياق، سياق ما تُشير إليه الأمثلة القرآنية السابقة، فإن أولى الملامح التي يمكن التوصل إليها، بشأن بناء “مفهوم إسلامي للتنمية”، هو: إن التنمية عملية ذات بعد مستقبلي، لا تتم إلا من خلال امتلاك المقدرة على الإنجاز، سواء كانت هذه المقدرة “مادية” أو “معرفية”.

فكيف، إذن، يمكن امتلاك المقدرة هذه(؟!).

البعد المستقبلي

لعل مقاربة التساؤل المطروح، يمكن أن تتم عبر ملاحظة “البعد المستقبلي”، الذي تعلمناه من “تأويل” يوسف (عليه السلام) لما رآه الملك في منامه.. إذ عبر ملاحظة هذا “البعد المستقبلي”، يمكن القول إن التخطيط عملية ضرورية من أجل تحقيق هدف محدد (مواجهة السنوات العجاف، أو خروج العسل، أو استخراج الكنز.. كأمثلة قرآنية). من هنا، نكتشف أنه مهما يكن ما نريد أن نحققه فإنه لا يتحقق إلا في المستقبل “ذلك الغائب من الزمن، القادم بعد حين”، بعد الواقع ولو بلحظة من الزمان.

بهذا الاكتشاف البسيط لعنصر الزمان (البعد المستقبلي)، في عملية التخطيط، نلتقي بأول وأهم شروط تحقيقها وامتلاك القدرة على إنجازها. إذ ما دمنا نبدأ من الواقع للوصول إلى هدف محدد في المستقبل، فإن إمكان الوصول إلى هذا الهدف لا يكون متوقفًا على مجرد إرادتنا وعملنا، بل ـ قبل الإرادة والعمل ـ على ما إذا كان الواقع (الذي نبدأ منه)، أو بالأصح: الأشياء والظواهر التي يتكون منها هذا الواقع، منضبطة في حركتها إلى المستقبل بقوانين أو نواميس ـ حتمية ـ أم لا.

وهذا ما يطرح من جديد أهمية معرفة “السنن الإلهية” وقوانين الوجود الإنسانية والاجتماعية.. والتاريخية أيضًا.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock