بناءً على أن الدولة كـ”مفهوم”، تتضمن عناصر ثلاثة: “شعب، وأرض، وسيادة شاملة الشعب والأرض جميعًا”؛ وبناءً على ما يعنيه ذلك من أن: “سيادة الشعب على الأرض، هي تلك التي تمارسها الحكومة، فتسمى حينئذٍ سلطة”.. بناءً على هذا وذاك، هل يُمكن أن نقول: مثلما تكون السلطة هي “ممارسة” السيادة، فإن الاستقلال هو “ممارسة” السلطة(؟!).
لعل الاقتراب من هذا التساؤل، يتطلب، بداية، ضرورة “التمييز” اللازم تأكيده بين “السيادة”، كعنصر من عناصر الدولة، وبين “الاستقلال الذاتي”؛ ومن ثم، فإنه في حين تشير السيادة إلى: “السلطة العليا للدولة في إدارة شئونها، سواء كان ذلك داخلها، أو في إطار علاقاتها الدولية”، فإن مفهوم “الاستقلال الذاتي” يشير إلى: “قدرة الدولة القومية على صياغة وتطبيق سياسات خاصة بها في مختلف المجالات”.
السيادة والاستقلال
مثل هذا التمييز، وضرورته، بين السيادة والاستقلال الذاتي، تتبدى أهميته بوضوح: إذا لاحظنا، من جهة، أن: “الدولة، إزاء معالم الاقتصاد الدولي الجديد، واندماجها المتزايد في آلياته، تفقد شيئًا فشيئًا استقلالها ـ النسبي ـ الذي كانت تتمتع به عن أصحاب الثروة والنفوذ”؛ وأدركنا، من جهة أخرى، التحول ـ الراهن ـ من السيادة المطلقة إلى السيادة النسبية.
إذ، إن الدولة تمارس وظائفها في بعض المجالات بوصفها صاحبة السيادة والسلطة على إطلاقها، وفي مجالات أخرى تمارس هذه الوظائف بوصفها لا تتمتع إلا بقدر نسبي من هذه السلطة وتلك السيادة. في الحالة الأولى، تكون مطلقة اليد في التصرف، وفي الحالة الثانية تكون مُقيدة بالعديد من القيود خارج نطاق تحكمها.
وتكفينا، هنا، الإشارة إلى واحد من الأمثلة العديدة التي تؤكد على هذه الحالة (الثانية). فالاتفاقات والمعاهدات، على المستوى الخارجي، التي تُصادق عليها “الدولة”، هي ملزمة بدورها، وتعمل في إطار التشريع الداخلي لها، حيث إن: “نصوص المعاهدات الدولية تسري ـ بعد التصديق عليها ـ داخل كل دولة طرف فيها، باعتبارها تشريعًا من ذات قوة التشريع الداخلي للدولة، أو في درجة أعلى منه”.
وهو ما ينطوي على خطورة بالغة، في ما يخص البلدان “النامية” إزاء الدول الصناعية المتقدمة، في ظل كافة الظروف التي نعاصرها في الراهن.
وفي ما يبدو، هكذا، فإذا كانت العناصر التي يجب أن تتوافر لأي مجتمع ليكون دولة، أو: ليمتلك “مقومات الدولة”، حسب ما نفضل نحن أن نطلق عليها، هي “شعب، وأرض، وسيادة شاملة الشعب والأرض جميعًا”.. فهي، في الوقت نفسه، تدفع إلى مواجهة التساؤل الرئيس، في حديثنا هذا، ذلك الذي يتمحور حول: مصير الدولة كـ”مؤسسة مجتمعية”، أو: تداعيات ما نعايشه راهنا، ملامحه ومؤثراته، على “مقومات” الدولة.
كيف(؟!).
مستقبل الدولة
بداية، فإن المفارقة بالغة الدلالة أن السنوات الأخيرة من القرن العشرين، كانت قد جاءت وفي ركابها بعض المؤثرات على الدولة: ليس، فقط، على دورها؛ ولكن على طبيعتها، أيضًا.. إذ، مع تنامي ظاهرة “المناخ العالمي الجديد”، بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل والثقافية، وبما أدى، وسوف يؤدي، إليه من مؤثرات ـ قائمة ومحتملة ـ على “الدولة”، بدا وكأن مكانة الدولة، سلطاتها وسيادتها، تتراجع أمام تلك “المؤثرات”، ما دفع البعض إلى التساؤل عن مستقبل الدولة.
بل، إن هناك من لم يكتف بمجرد التساؤل عن هذا المستقبل، مستقبل الدولة؛ وإنما تجاوز التوقف عند حدود التساؤل، إلى المطالبة بـ”الدولة”، أو: “إعادة الدولة” بالأحرى، خوفًا من جملة مؤثرات هذا المناخ الجديد، الذي يعاصره العالم راهنا، على الدولة ومستقبلها.
ففي كتابه: “فرنسا الجديدة، فرنسا للجميع”، أطلق ﭽاك شيراك صرخته التالية: “أعيدوا إلينا الدولة!.. إن الدولة هي في طريق فقدان السيطرة على أعمالها”.. وأضاف: “أنا لا اقترح تغييرًا في الجمهورية، بل على العكس من ذلك: تغيير الجمهورية”. وفي ما يبدو، فإن اقتراح شيراك هذا، الذي تضمنته صرخته تلك، إنما يعبر عن مدى إلحاح الحاجة إلى “وجود الدولة”؛ وإن المطلوب ـ بالتالي ـ تغيير، أو: بشكل أكثر صحة “تكييف”، الدولة لتصبح قادرة على الوفاء بالتزاماتها.
ولأن التكييف المقصود، والمطلوب، هو “الإيجابي”.. فالاصطدام “واقع” لامحالة بالتساؤل، إياه، حول: ما هو الجديد في ما يخص دور الدولة(؟!). وهو تساؤل جوهري، بل حاسم، لأنه بقدر ما يتعلق بـ “الجديد”، يتمحور ـ في آن ـ حول “المصير”: مصير الدولة في الإطار العام لما نعيشه في الراهن(!!).
ولعل ما يبرز أهمية مثل هذا التساؤل، هي الملاحظة التي مؤداها: إن الواقع الراهن (الحاضر)، في معظم بلدان عالم اليوم، يتسم بكونه مشدودًا إلى المستقبل أكثر من انشداده إلى الماضي؛ وبالتالي، فالعناصر الفاعلة فيه هي تلك التي لها علاقة بالمستقبل، وهذه، على أية حال، خاصية كل مرحلة انتقالية، كالتي يمر بها عالمنا المعاصر.
بل، ربما، لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا: إن المستقبل، هذه المرة، بين أيدينا، لقد أتى إلينا في عقر “واقعنا”، ولم ينتظر ذهابنا إليه. إذ، لم يعد كعهد أجدادنا وآبائنا به، لم يعد ذلك “المجهول”؛ فهو، في ما يبدو، يتشكل أمامنا بعد أن فرض مقدماته علينا.
ومن ثم، ورغم ما يعتصر العالم من تحولات هائلة، فإن المعرفة الجيدة بـ”معطيات” الواقع الراهن تمكننا، بالتالي، من تبين آفاق المستقبل، أي: رصد الاتجاهات الممكنة فيه. إذ، وتبعًا للمبدأ القائل: “لا شيء يقع في المستقبل لم يكن له أصل وأساس في الماضي”، فإن معرفة “الواقع” ـ الذى سيصبح ماضيًا ـ معرفة جيدة ودقيقة، يمكن أن تساهم، ولاشك، في إمكانية توقع “آفاق المستقبل”.
نقول: “آفاق”، ولا نقول: “ماجريات”، لأن الآفاق تعطينا “اتجاه الأحداث” وليس الأحداث نفسها.
المناخ الجديد
نعم، ما يزال “الماضي” يشكل إحدى المرجعيات الأساسية في “واقع” عالم اليوم، أو بالتحديد في “حاضر” بقاع كثيرة من بلدان هذا العالم، اجتماعيًا وفكريًا؛ ولكن، رغم ذلك، فإن الملاحظة التي نود أن نسوق، في هذا المجال، أن تأثير هذه المرجعية لن يكون حاسمًا، بسبب أن العوامل الحاسمة في عالم اليوم هذا، وفي القلب منه بلدان الجنوب، ومن بينها البلدان العربية والأفريقية، هي عوامل خارجية أساسًا، أو على الأقل: ليس فعلها مرهونا بـ”الأنا” وحده، بل هناك “آخر” يزاحمه ويعمل على إلغاء دوره، وفي الوقت نفسه أقوى منه نظرًا لـ”عالميته”.
عندما يكون الأمر بهذه الصورة، فإن علاقة “الآخر ـ الأنا”، أو: جدلية “الخارج ـ الداخل” بالأحرى، تصبح هي بوابة المرور في محاولة التعرف على الواقع الراهن، بما يتسم ـ به ـ بكونه مشدودًا إلى المستقبل: “ذلك الغائب من الزمان، القادم بعد حين”، وبما يحتويه (الواقع)، من معطيات تتضمن ـ بالتأكيد ـ جديدًا، في ما يخص ملامح هذا المستقبل.. بعبارة أخرى، إن “الجديد” هذه المرة، يتمثل في الكيفية التي تتم بها، ومن خلالها، المعرفة ذاتها؛ أو بالأحرى: كيفية المعرفة، التي تتيح، أو يمكن أن تتيح، إدراكًا ووعيًا جديدين بالأشياء والظواهر والوجود الشامل الأشياء والظواهر معًا.
وفي ما يبدو، هكذا، فإن كيفية المعرفة، هذه، تؤشر إلى الثورة العلمية والتقنية، التي تمثل أهم ظاهرات العالم الذي نعاصره، وذلك من حيث كونها “معطى رئيس” ضمن معطيات الواقع الراهن؛ وفي الوقت نفسه، من حيث كونها تنطوي على “الجديد” إياه: المعرفة، أو كيفية المعرفة بالأصح. بل، وهذا هو الأهم، من حيث كونها “العامل الحاسم” في انشداد العناصر الفاعلة في هذا الواقع إلى المستقبل.