رؤى

متابعات عربية: ملف الغاز.. ودوافع إسبانيا في حلحلة الأزمة الليبية

بإشراف وزارة الخارجية الإسبانية، ومُشاركة معهد طليطلة الدولي للسلام، عُقدت ورشة العمل الفنية، في 23 مايو الماضي، حول “طرائق الدعم الدولي لبرنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج الليبي”، التابع لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. هكذا تنتقل محاولات حلحلة الأزمة الليبية، الممتدة لأكثر من عقد من الزمان، من دولة إلى أخرى؛ بل لا تزال تتنقل بين المدن العربية والغربية، إلى أن وصلت إلى مدينة طليطلة الإسبانية.

دوافع وأهداف

في الوقت الذي أكدت فيه مشاورات طليطلة على ضرورة حل التشكيلات المسلحة بالمنطقة  الغربية الليبية، من حيث إنها تعرقل عمل الحكومات، بما يمنع الاستقرار وأداء المؤسسات لمهامها.. إلا أن هذه المشاورات، في الوقت نفسه، جاءت لتحمل رسائل عدة إلى الدول المتدخلة في ليبيا، أهمها أن إسبانيا لها مصالح في هذا البلد.

هذه المصالح تدور في معظمها حول أهمية الغاز الليبي بالنسبة إلى إسبانيا؛ وهو ما تؤكده الدوافع والأهداف الإسبانية التالية في التحرك باتجاه مقاربة الأزمة:

فهناك محاولة السيطرة على أزمة تكلفة المعيشة، حيث تعتمد إسبانيا بشدة على خطة الحد الأقصى للأسعار؛ فقد دفعت تكاليف الطاقة الأوروبية المتصاعدة، والتي تفاقمت بسبب الحرب في أوكرانيا – رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، إلى التعهد بحد أقصى لسعر الغاز للحد من التأثير على أسعار الكهرباء؛ ومحاولة التقليل من تداعيات التضخم، الذي وصل إلى أعلى مستوياته منذ منتصف الثمانينات، في مارس الماضي، قبل أن يتباطأ قليلًا في أبريل.

ولعل هذا ما دفع إسبانيا ومعها البرتغال، إلى التقدم باقتراح مشترك إلى المفوضية الأوروبية، في الخامس من مايو، بشأن كيفية تحديد سعر الغاز الطبيعي المستخدم في توليد الكهرباء.

وهناك أيضًا المخاوف الإسبانية من الاتفاق الجزائري الإيطالي، الذي وقّع عليه بين شركتي سوناطراك الجزائرية وإيني الإيطالية، في 11 أبريل الماضي، بشأن زيادة حجم إمدادات الغاز، باستخدام القدرات المتاحة لخط أنبوب “ترانسماد”؛ من تعزيز موقف الجزائر في المحادثات مع مدريد حول أسعار الغاز.

وبموجب الاتفاقية الجديدة، سوف تحصل إيطاليا على كميات إضافية من الغاز الجزائري، تصل إلى 9 مليارات متر مكعب سنويًا؛ بما يعني زيادة صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي إلى إيطاليا بنحو 50 %.

وبحسب تقرير لوكالة بلومبيرغ الأمريكية، نشر في 13 أبريل، فإن إيطاليا قد حصلت، بموجب اتفاقها مع الجزائر، على “ثلاثة أضعاف” كمية الغاز التي تحصل عليها إسبانيا. أضف إلى ذلك، التراجع الحاصل في واردات الغاز الإسبانية الشهرية من الجزائر، من 60 % من مجموع ما تستورده إسبانيا من الغاز إلى 29 % فقط.

وهناك كذلك التوتر في العلاقات بين الجزائر وإسبانيا، نتيجة الأزمة الدبلوماسية بين البلدين؛ وذلك بعد تبني مدريد، أواخر مارس الماضي، مبادرة “الحكم الذاتي” المقترحة، منذ عام 2007، من جانب المغرب لإيجاد تسوية لمشكلة الصحراء الغربية، المتنازع عليها منذ عام 1975، بين المغرب وجبهة البوليساريو، المدعومة من الجزائر.

ومما زاد من توتر العلاقة بين إسبانيا والجزائر (المُزَوِد الرئيس لها بالغاز الطبيعي) والمزيد من التعقيدات – هو الإعلان الإسباني عن الشروع في تصدير الغاز إلى المغرب عكسيا، عبر خط أنابيب الغاز المغاربي الأوروبي، الذي كان يوصل الغاز الجزائري إلى إسبانيا عبر المغرب، وتوقف العمل به في 31 أكتوبر 2021، بعد الأزمة الدبلوماسية بين المغرب والجزائر، ما دفع الأخيرة إلى التهديد بفسخ العقد الخاص بتصديرها الغاز إلى إسبانيا.

ثم هناك أخيرا، سعي إسبانيا لتكون موردًا لأوروبا بالغاز، الذي تستورده من ليبيا، وخط الأنابيب المتصل بالجزائر الذي يوفر 30 % من قدرات تحويل إعادة الغاز في أوروبا.

هذا فضلا عن الإمكانية المتاحة لاستيراد الغاز من نيجيريا.. ويتواكب ذلك مع إبداء فرنسا رغبتها في استئناف المباحثات مع إسبانيا، حول بناء خط أنابيب غاز يربط بين البلدين.

ويأتي السعي الإسباني، مع الرغبة الفرنسية، في الوقت الذي يبحث فيه الاتحاد الأوروبي عن خطط بديلة، تقطع تدريجيًا التبعية للغاز الروسي، بناءً على التوجهات الأوروبية في فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، كرد فعل على الحرب الدائرة في أوكرانيا.

صعوبات وإشكاليات

رغم الدوافع والأهداف الإسبانية في الدخول على خط الأزمة الليبية، ورغم الأهمية الواضحة لملف الغاز الليبي؛ إلا أن عددًا من الصعوبات يمكن أن تعوق الطموح الإسباني، في إمكانية التحول إلى مورد بديل يزود أوروبا بالغاز.. وهو ما يطرح بعض الإشكاليات، أهمها:

أولًا، إشكاليات خاصة بالغاز الجزائري، حيث يأتي التوتر في العلاقات الإسبانية الجزائرية، في وقت تسعى فيه الجزائر للاستفادة من أسعار أعلى، وزيادة في الطلب الطويل الأجل على غازها في أوروبا، نتيجة الحرب في أوكرانيا.

صحيح أنه من المستبعد استخدام الجزائر للغاز كـ”ورقة ضغط” على مدريد، بخصوص موقفها المؤيد للمبادرة المغربية لتسوية الصراع مع البوليساريو حول الصحراء الغربية؛ إلا أنه وفي الوقت نفسه، تقف ظروف صنع القرار السياسي الداخلي في الجزائر، والتحالف الاستراتيجي المستمر منذ عقود مع روسيا، بمثابة حجر عثرة دون زيادة إمدادات الغاز الطبيعي إلى إسبانيا.

فمن غير المرجح أن تنجح الجزائر، ثالث أكبر مستورد للسلاح الروسي، في أن تحل محل إمدادات الغاز من روسيا، دون موافقة ضمنية منها؛ وذلك على عكس ما كان يأمله صانعو السياسة الأوروبيون في أن تخفف الجزائر وليبيا من الاعتماد الأوروبي على روسيا في مجال الطاقة.

أضف إلى ذلك أن الجزائر رغم أنها واحدة من أكبر منتجي الغاز في العالم، ومن بين أكبر خمس دول تُصدر الغاز الطبيعي المُسال إلى أوروبا- لم تجدد عقدها مع المغرب، للاستمرار في تزويد إسبانيا بالغاز، عبر أنبوب الغاز المغاربي الأوروبي؛ بعد الأزمة الدبلوماسية بينهما، وتوقف العمل بهذا الأنبوب.

ثانيًا، إشكاليات خاصة بالغاز الليبي، حيث تعاني حقول النفط والغاز الليبيين من الإغلاقات وانعدام الصيانة، والتي أثرت على مستوى الإنتاج بشكل كبير. ورغم أن ليبيا تحتفظ بأكبر احتياطيات للنفط في أفريقيا، ولديها أصول غاز طبيعي كبيرة؛ إلا أن النزاعات المسلحة التي تشهدها البلاد طوال سنوات، منذ عام 2014، والصراع على السلطة بين شرق ليبيا وغربها، وعدم توفير الميزانية اللازمة للصيانة الدورية، كل ذلك ساهم في التراجع الكبير في إنتاج النفط والغاز أيضا.

وكان عدد من المحتجين قد أعلنوا إغلاق الحقول والموانئ النفطية، إلى حين تنفيذ مطالبهم بعدم إحالة إيرادات النفط لحكومة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، والتي أقالها البرلمان الليبي؛ لكن فتحي باشاغا، رئيس  الحكومة المُكلف من جانب البرلمان أعلن في منتصف مايو، عودة هذه الحقول للإنتاج مرة أخرى.

تنافس متوسطي

خلاصة القول، أن تداعيات الحرب في أوكرانيا، قد انعكست تطوراتها على دول المحيط المتوسطي عمومًا، وتلك التي تقع في شمال أفريقيا بوجه خاص؛ حيث تندرج الجزائر وليبيا، في طليعة الدول التي يمكنها تصدير الغاز إلى أوروبا، في إطار السعي الأوروبي إلى التقليل التدريجي في الاعتماد على الغاز الروسي.

من هنا، تبدى التنافس بشكل أكبر على الغاز من الجزائر وليبيا، إضافة إلى نيجيريا، بين الدول المتوسطية، وخصوصًا بين إيطاليا وإسبانيا. وبعد أن استطاعت إيطاليا التوقيع على اتفاق مع الجزائر، يقضي بزيادة إمدادات الغاز بمقدار النصف؛ سارعت إسبانيا إلى الدخول على خط الأزمة الليبية، فكانت ورشة مدينة طليطلة الإسبانية بخصوص إمكانيات نزع سلاح الميليشيات في ليبيا.

وفي الوقت الذي أكدت فيه مشاورات طليطلة على ضرورة حل التشكيلات المسلحة بالمنطقة  الغربية الليبية، كخطوة في اتجاه حلحلة الأزمة؛ فإن هذه المشاورات جاءت لتحمل رسائل عدة، إلى الدول المتدخلة في ليبيا، أهمها أن إسبانيا هي الأخرى لها مصالح في هذا البلد. وتزداد أهمية هذه المصالح، خصوصا المتعلقة منها بالغاز والنفط مع تنامي الإشكاليات التي تتعلق بالغاز الجزائري، في إطار سعي إسبانيا لتكون موردًا لأوروبا بالغاز، الذي تستورده من ليبيا، والذي يبدو أنه سوف يتنامى في قادم الأيام.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock