رؤى

آدم خليفة لمن؟! إشكاليات مصطلح الاستخلاف في الأرض

يأتي مصطلح الاستخلاف ليُعبر عن مفهومٍ ذي إشكاليات كبرى في الفكر العربي والإسلامي، فرغم الاتفاق على أن آدم عليه السلام جاء ليكون خليفة في الأرض، بحسب أصل الورود في التنزيل الحكيم، إلا أن الاختلاف القائم يأتي من محاولة الإجابة على التساؤل: خليفة لمن؟ فمن السلف، ومن سار على دربهم من الخلف، من يقول هو خليفة الله في الأرض؛ ومنهم من يقول: خليفة الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبل آدم.. إلى غير ذلك من الأقوال التي لا سبيل إلى التأكد من وجود برهان عليها، أو دلائل تشير إليها.

مصطلح الاستخلاف

ولعل الآية الأصل في صك مصطلح الاستخلاف، هي قوله سبحانه وتعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” البقرة (30) وفي تفسيره لهذه الآية، يؤكد الرازي في التفسير الكبير “اعلم أن هذه الآية دالة على كيفية خلقه آدم عليه السلام، وعلى كيفية تعظيم الله تعالى إياه”. أما الطبرسي، فيذكر في مجمع البيان لعلوم القرآن أن “جاعل في الأرض خليفة، أي خالق في الأرض خليفة، وأراد بالخليفة آدم عليه السلام، فهو خليفة الله في أرضه”. وفي ما يبدو، عبر هذين المثالين وغيرهما، من القرطبي إلى البيضاوي، وصولا إلى المراغي من المحدثين، فإن ثمة خلط بين جاعل وخالق؛ هذا فضلا عن عدم الالتفات إلى دلالات الصيغة التي ورد فيها لفظ “خَلِيفَةً”، وهي صيغة النكرة التي تفيد العموم.

يحملنا هذا على الاقتراب من الإشكالية التي يُثيرها مصطلح الاستخلاف، لتفكيكها إلى عناصرها الرئيسة، ومن ثم إعادة تركيبها، للوقوف على ما يحمله المفهوم من دلالة، تختلف بالتأكيد عن كثير من أطروحات الفكر العربي والإسلامي في هذا الشأن. ولعل ذلك أيضا ربما يُمثل خطوة أولى في بناء مفهوم إسلامي حول الاستخلاف، من حيث المعنى ومن حيث المبنى في الوقت نفسه.

وفي نظرنا، فإن نقطة البدء في هذا الاتجاه، هو ما تشير إليه دائرة المعنى في اللسان العربي للفظ استخلاف. وهذا الأخير مصدر الفعل استخلف، الذي يستند إلى الجذر “خ ل ف”. وكما جاء في معجم مقاييس اللغة، فإن “الخاء واللام والفاء أصول ثلاثة تأتي لأحد معان ثلاثة، الأول أن يجيء شيء بعد شيء فيقوم مقامه؛ والثاني خلاف قُدام، ويكون هذا المعنى بتسكين الوسط خَلْف. أما الثالث فهو الاختلاف والمخالفة ومنه إخلاف الوعد”.

في هذا المعنى الأخير، أي التنازع في خلافة شخص لآخر في قوله أو فعله رغم وجوده، يأتي قوله سبحانه: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ” آل عمران (105). وقوله تعالى: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ” آل عمران (19). وفي المعنى الثاني، أي تخَلَفَ ضد تقدم أو خَلْف ضد قُدام، يأتي قوله سبحانه: “فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ” الأعراف (169) وقوله: “فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ” مريم (59). وأيضًا، يأتي قوله تعالى: “فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً” يونس(92) وقوله: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” يس (45).

أما في المعنى الأول، أي مجيء شخص بعد آخر ليقوم مقامه، يأتي قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ” الأنعام (165) وقوله سبحانه: “وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً” الأعراف (69) وقوله تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ” فاطر (39).

وهكذا، يبدو ارتكاز دائرة المعنى على نقطة رئيسة، مفادها أن الجذر “خلف”، يشير إلى مجيء شخص بعد آخر ليقوم مقامه، ومصدره الخلافة. وهو ما يتبدى بوضوح في قوله سبحانه: “وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ” الأعراف (142) وقوله تعالى: “وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي” الأعراف (150)

فإذا حاولنا الاقتراب من دائرة الدلالة للمصدر “خليفة”، كما تبينها آيات الذكر الحكيم، فإن أول ما يمكن ملاحظته هو ورود لفظ “خليفة”، على وزن فعيلة وجمعه خلائف وخلفاء، في موضعين؛ في حين ورد لفظ “استخلف” – بصيغة الماضي والمضارع – في أربعة مواضع. أما لفظ “مستخلف”، وهو اسم مفعول لخلف، فقد ورد في آية واحدة هي قوله سبحانه: “آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ” الحديد (7).

دلالة لفظ خليفة

وهنا، لنا أن نشير إلى نقطتين أساسيتين، كمداخل، للتعرف على ملامح دائرة الدلالة المتعلقة بلفظ “خليفة”.

فمن جهة، لنا أن نلاحظ الاختلاف بين الخلق والجعل؛ ففي الخلق يقول سبحانه: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ” ص (71) ثم أتبعها بقوله تعالى: “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ” ص (72-73) إذ يبدو أن “الخلق” هو من عالم الغيب كما يقتضي الأمر الإلهي في إبداع الشيء من غير أصل أو احتذاء. وهنا، لم يتساءل الملائكة عن المخلوق، أو عن أفعاله، مع ملاحظة أنهم امتثلوا لأمر الله؛ وذلك على عكس تساؤلهم بالنسبة إلى عملية “جعل آدم خليفة”.

أما في قوله تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” البقرة (30) يبدو أن “الجعل” هو تغير في الصيرورة، إذ لم يكن آدم خليفة فأصبح؛ تمامًا كقوله سبحانه لإبراهيم “قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا” البقرة (124)، إذ لم يكن إبراهيم عليه السلام إمامًا فأصبح إمامًا. وأيضًا كقوله لداود: “يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ” ص (26) إذ لم يكن داود خليفة فأصبح ليحكم بين الناس بالحق. وهو ما يعني أن “الجعل” هو من عالم الشهادة حيث مجرى الصيرورة وتحول الشيء وتصييره على حالة دون أخرى.

من جهة أخرى، لنا أن نلاحظ اختلاف ورود صيغة “جعل” في ارتباطها بلفظ “خليفة” في الموضعين. فبالنسبة إلى داود فقد وردت في صيغة الفعل الماض، فضلا عن تصدير الآية بالنداء “يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ” أما بالنسبة إلى آدم فقد وردت في صيغة اسم الفاعل الذي يدل على استمرار العملية؛ عملية “جعل آدم خليفة”، مع عدم ورود اسم “آدم” في الآية. أضف إلى ذلك أن “الكاف” في “جَعَلْنَاكَ” بالنسبة إلى داود تدل على “الاستخلاف الخاص” في حين أن ورود “جَاعِلٌ” بالنسبة إلى آدم تدل على العموم، خاصة مع ورود لفظ “خَلِيفَةً” في صيغة “النكرة” التي تؤكد هذا العموم.

فالجعل، إذًا، لا يعني خلق شيء جديد مستقل بذاته، وإنما هو إحداث تغيير ما في شيء موجود من قبل، أي عملية تحويل شيء من حال سابقة إلى حال جديدة من دون استبدال الشيء ذاته؛ وهو ما يتضح في قوله سبحانه: “فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ” يونس (73) وفي قوله تعالى: “وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ” القصص (7).

وفي ما يبدو، فإن الخط المستقيم الواصل بين النقطتين السابقتين، يشير إلى ارتكاز دائرة الدلالة، في التنزيل الحكيم، على أن الخليفة هو من اُستُخْلِف في الأمر مكان من كان قبله، فهو مأخوذ من كونه خلف غيره وقام مقامه. ومن ثم فالخليفة لا يُصبح خليفة إلا لمن هو من بني جنسه؛ فالإنسان لا يصلح أن يخلف الملائكة أو الجن، والعكس صحيح. فكيف، إذن، يقول القائلون بأن الإنسان يخلف الله سبحانه وتعالى(؟!!).

يكفي أن نشير هنا للدلالة إلى قوله سبحانه: “وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ” الزخرف (60) وهنا يرد “مَلَائِكَةً” كـ”جنس” إلى “مِنْكُمْ”، أي من نفس جنسكم؛ لأنه لا يصلح، ولا يصح، أن يخلفكم ملائكة من جنس غير جنسكم. إن الخلط بين اسمي الفاعل “خالق” و”جاعل”، هو ما أدى بأطروحات الكثيرين من السلف، والخلف، إلى القول بأن الإنسان خليفة الله في الأرض؛ وهو قول – في نظرنا– غير صحيح.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock