رؤى

ثورة المعلومات.. وتغير مفهوم القطبية الدولية

في إطار الثورة العلمية والتقنية الراهنة، التي يعيش المجتمع الإنساني تأثيراتها وتداعياتها، وذلك على جميع المستويات السياسية والاقتصادية، بل والثقافية أيضًا.. فإننا نعتقد في ضرورة الاقتراب من التأثير الذي تمارسه هذه الثورة بشكل عام، و”ثورة المرئيات” ـ في إطارها ـ بشكل خاص، على بناء القوة والسلطة في العالم.

وهنا، فإن “الجديد” الذي نعاصره، ويتبدى بوضوح على ساحة العلاقات الدولية: ليس التحول من نظام القطبية الثنائية، إلى نظام القطب الواحد كما يرى البعض، أو إلى القطبية المتعددة كما يدعي البعض الآخر، بقدر ما يتمحور الجديد حول طبيعة القطبية نفسها.

المفهوم التقليدي

كان جوهر القطبية هو السيطرة، وأداتها القوة العسكرية؛ أي إن القطبية، تقليديًا، كان يتم التعرف عليها عبر توزيع القوة والسلطة بين دول قومية أو تكتلات أو أحلاف بينها، وعن طريق سعي “الأقطاب” إلى السيطرة التي تتضمن استخدام، أو: التهديد باستخدام، القوة ضد أقطاب وأطراف أخرى في العالم.

الآن اختلف الوضع، فالقطبية يمكن التعرف عليها من خلال سيادة شبكة كبيرة ومعقدة من التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشئون الدولية؛ وهي الشبكة التي تُمثل أساس النظام الغربي (الليبرالي/الرأسمالي) في محاولته لتسيد الساحة العالمية منذ بدايات العقد الأخير من القرن الماضي. ومن ثم فإن ما يتسم به هذا النظام الغربي، هو السعي المستمر والدءوب، من أجل توسيع السوق وتكثيف التعامل فيه ومعه؛ وهو الأمر الذي أصبح الآن متاحًا ـ كما لم يحدث في التاريخ من قبل ـ بفعل ثورة المعلومات خصوصًا، والثورة العلمية والتقنية عمومًا.

بهذا الخصوص، يكفي أن نلاحظ العلاقة الطردية العميقة بين البنية “العلمية ـ التقنية” من جهة، والبنية الاقتصادية من جهة أخرى؛ حيث طرأ ـ منذ ما يجاوز عقدين من الزمان ـ تغير كيفي على الاقتصاد العالمي، بما يتضمنه من كافة العمليات التي تتعلق بإنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات، ذلك أن المادة “الأولى” ـ ولانقول “الأولية” ـ التي يقوم عليها الاقتصاد المتقدم، أصبحت تتمثل في المعلومات.

ولما كانت هذه المعلومات، والمعرفة التي تنبني عليها، هي منتج اجتماعي، فإن أسس التقسيم الاقتصادي التقليدية لم تعد ملائمة في ظل هذا الاقتصاد، الذي دخل عالمًا جديدًا تتمثل قوته الرئيسة في المعرفة، وتتقدم فيه المعلومات على كل ما عداها من المواد الخام والوقود والموارد الطبيعية وموارد العمل البسيط للبشر.

بل لا نغالي إذا قلنا إن المعلومات أصبحت هي المورد الرئيس لثروة المجتمع، من حيث كونها موردًا متجددًا وقادرًا على تحويل مواد لم تكن معروفة أو ـ في الحد الأدنى ـ لم نكن نعرف لها قيمة، إلى موارد جديدة. يكفي أن نتأمل كيف أصبحت المعلومات، أو “صناعة المعلومات” بالأحرى، تُمثل عنصرًا جوهريًا في الناتج القومي لكثير من الدول “الغربية” المتقدمة، وحتى في بعض بلدان “الجنوب”، فضلًا عن دورها في التجارة الإلكترونية التي تتدفق عبر حدود الدول، متجاوزة بذلك الحكومات والمؤسسات.

تغير المفهوم

هذا، وإن كان يلمح إلى أن توزيع القوة والسلطة لا يستند إلى القدرات العسكرية وحدها، مثلما كان عليه الحال في مرحلة الثنائية القطبية، خلال النصف الثاني من القرن العشرين؛ فهو إضافة إلى ذلك يؤشر إلى أن الديناميات الدولية التي نراها تتجاور وتتعايش وتتداخل، بل وتتصادم أحيانًا، تدفع إلى تصور فترة نتعلم خلالها “إعادة النظر” في تصورات أو مقولات، كنا نقف منها موقف المعارضة حتى وقت قريب.

من هنا، فإننا إذا تجاوزنا القيمة الوصفية للفهم التقليدي لمسألة “القطبية”، يتبدى بوضوح أن المستوى الملائم للتحليل لا يقع في المجال الجامد للقوة العالمية، بقدر ما هو في التفاعلات التي تربط بين اللاعبين الدوليين وبعضهم البعض.

بمعنى آخر، إن الطابع غير الملائم لمفهوم “توازن القوى” في المجال الاقتصادي، فضلًا عن الطبيعة الجزئية التي تتسم بها مخاطر السياسة الدولية، وعدم التطابق التام بين ميادين السيادة الاقتصادية والسياسية، من دون إغفال “عدم التجانس” السياسي بين القوى (أوروبا، كمثال، لاتتمتع بالسيادة على الصعيد السياسي بنفس درجة الولايات المتحدة الأمريكية).. كل ذلك من شأنه أن يقلل من الاستخدامات العملية لمفهوم “القطبية” بمعناه التقليدي؛ ويدل – في الوقت نفسه- على مدى ما طرأ من تغير على طبيعة القطبية، التغير الذي أوشكت القطبية بفضله أن تتجاوز التوزيع الجامد بين قوى متشابهة، إلى أن تصبح “تخصصًا وظيفيًا”، ليس بالمفهوم المتداول، ولكن بالمفهوم الذي يتضمن دلالات وتأثيرات، الجانب المعلوماتي في الثورة العلمية والتقنية.

ولعل ذلك يتبدى بوضوح إذا لاحظنا إن ما نشاهده اليوم من اختلاف نوعي بين المجتمعات الإنسانية، مرجعه إلى التضخم الهائل في حجم المعلومات، وتوافر الأدوات والوسائل العلمية القادرة على التعامل مع هذا الكم من المعلومات، فضلًا عن الدور الحيوي الذي تلعبه المعلومات في جميع الأنشطة “المجتمعية”؛ وهو الوضع الذي جعل من المعلومات وصناعتها والتقانة التي تعتمد عليها، مصدرًا أساسيًا للقوة السياسية والاقتصادية والثقافية.. بل، والعسكرية أيضًا.

ومن ثم، يبدو أنه لا تطابق بين تدفق المعلومات ووفرتها؛ فـ”الوفرة” ليست سمة ضرورية للدخول إلى عصر المعلومات، وهي عندما تحدث لا تصنع مجتمعًا قائمًا على المعلومات، وإنما قد تصنع ـ في حال عدم التمكن من أدوات صناعتها وتدفقها ـ مجتمعًا تائهًا، تكتظ قنوات اتصاله بالمعلومات كما تكتظ الطرق بالسيارات.

ثنائية الإطارات

لا يحتاج الأمر إذن إلى تعليق حول تقانة المعلومات وما يختص بنتائجها المتوقعة مستقبلًا، وذلك في إطار ما نراه من مؤشرات بخصوص “تنافس القوى حول المعلومات وصناعتها والتقانة التي تعتمد عليها”.. إلا أن ما يحتاج – قطعًا- إلى تعليق، هو ما تؤشر إليه التطورات العالمية الجارية، خلال العقدين الأخيرين كحد أدنى؛ فهذه التطورات تسير في اتجاه تكوين عالم ثنائي “الإطارات” وليس ثنائي “القطبية”..

فمن جهة، هناك الإطار “الشمالي”.. ويضم الدول المتقدمة صناعيًا وتقانيًا في شمال العالم، والدول التي تحاول اللحاق بها في شرق آسيا وشرق ووسط أوروبا. وما يميز هذا الإطار درجة التطور الاقتصادي والتقاني العالية التي حققها، ويسعى إلى تحقيق المزيد منها؛ فضلًا عن الدرجة العالية من “الاعتماد المتبادل”، التي وصلت إليها دوله ومجتمعاته، والتي جعلت مصير كل منها ورفاهيته معتمدة على مصير ورفاهية الأعضاء الآخرين في الإطار نفسه.

من جهة أخرى، هناك “الإطار الجنوبي”.. الذي يتكون من باقي بلدان العالم، المسماة بـ”النامية” (أو دول “العالم الثالث”، حسب الاصطلاح القديم). وما يتسم به هذا الإطار، أن أنماط الصراعات والتوترات المجتمعية ما تزال هي السائدة بين بلدانه، وفي داخل العديد منها. هذا، فضلًا عن المأزق “الحضاري” شديد الحرج الذي تواجهه بلدان هذا الإطار ومجتمعاته، التي حلت بها هذه الموجة العارمة من تأثيرات، وتداعيات، الثورة العلمية والتقنية، وثورة المعلومات في إطارها بوجه خاص، وهي في أقصى درجات التشتت.

وفي ما يبدو فإن الخط المستقيم الذي يصل بين هاتين الجهتين، يؤكد على ضرورة أن نزيح عن كاهلنا التأثير السلبي الذي مارسه وما يزال، الاستهلاك الواسع لمقولات من قبيل: إن النظام الدولي يتجه إلى نظام “القطب الواحد”، و/أو إن النظام الدولي يتجه إلى “التعددية القطبية”؛ بل وأن نقدر أن التغير الحاصل هو في طبيعة القطبية نفسها.

يكفي أن نلاحظ، هنا، أنه لم يعد هناك وجود لقدرة لاعب واحد في السيطرة على تطور دولي في مجمله، بما في ذلك المجال العسكري في ما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية، أو روسيا.. (الحرب الروسية الأوكرانية.. مثال دال في هذا الإطار).

يعني ذلك أيضا أن “القطبية” التي يتعين مواجهتها، هي مفهوم غير مسبوق، فضلًا عما يشوبه من نقص وعدم تجانس.. “غير مسبوق”، لأنه لا يستند إلى تمييز قاطع بين الوظائف، أو إلى تقاسم متكافئ للقوة العالمية. وهو “ناقص” لأنه لا يتيح لأي لاعب السيادة المطلقة على أي تطور. ثم هو “عديم التجانس” لأنه يجمع بين كيانات سياسية ذات طبيعة مختلفة، من حيث تحديد مجال مسئولياتها الدولية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock