الأمومة تُرادِف الأمان والحنان والرعاية، وإذا كان آدم أبو البشر لم يُمنَح تلك النعمة التي تنعَّم بها أبناؤه وذريته من بعده، والتي ستظل ملازمة لنسله إلى قيام الساعة، فإنه قد مُنِح ما هو خير وأعظم؛ إذ عرف خالقه منذ بدء تكوينه، وحظي بتكريمه عندما علَّمه الأسماء كلها، وهي التي عجز الملائكة عن التنبؤ بها؛ لأن ربهم لم يُعلِّمهم إياها، وزاده ربه تكريمًا بسجود الملائكة له، كما شرَّفه بتلقي أوامره من قبل هبوطه من الجنة، ثم أنعم عليه بالتوبة بعد عصيانه، فأدخله في رحاب رحمته التي حُرِم منها إبليس بسبب فسوقه عن أمر ربه.
وهكذا ما أن نفخ الله في آدم من روُحه؛ حتى تجلَّت له المعرفة الحقيقية بخالقه والتي لم يكن فيها نقص أو اختلاط أو نسيان أو تجاهل أو لبْس. وما أن بدأ آدم حياته؛ حتى تجلَّى في صورته الآدمية معنى خَلق البشر بكل أبعاده من قبل أن يكون هناك تكاثر وأرحام وولادة ومخاض؛ ولكن فردية آدم لم تكن لتعني وحدانيته، بل كانت تنطوي على ما تحويه خلاياه من ثنائية ترادف الزوجية وتوحي بأنه مُعد للتزاوج.
لقد كانت أم البشرية جمعاء، وصاحبة الرحم الأول والألم الأول والمخاض الأول، هي أول امرأة تعرف معنى الأمومة دون أن يكون لها أم؛ فتميزت هي أيضًا بالخَلق الذي أسفر عن وجودها بدون ولادة، ثم مع أول ميلاد لإنسان شهدته الأرض؛ بدأ الانشغال بالتكاثر والالتهاء به؛ ومن ثم كان لابد لمن عرف أبويه أولًا، ثم عرف خالقهما وخالقه ألَّا تكون معرفته بخالقه مثل آدم الذي كانت معرفته بخالقه هي باكورة معرفته التي سبقت كل ما تلاها من أحداث، بدءًا من خلق زوجته، ثم سكناه الجنة معها، ثم الهبوط منها والحياة في الأرض، ثم إنجاب ذريته التي تحقق معها معنى الخلافة البشرية وسنتها المتواصلة.
وهذا يعني أن بداية وجود الإنسان لم تكن عن طريق الولادة، ومن ثم فالأمومة ليست هي أصل الحنان والرعاية أو منبع كل منهما إلَّا في إطار ما يتعلق بالولادة دون ما يسبقها. أي أن الأنثى الأولى التي لم تولد من أم، وكذلك الذكر الأول الذي هو أيضًا لم يولد من أم كانت لكل منهما حياة وإيجاد من عدَم وخَلق دون أية ولادة. وهذا يفيد بأن البداية كانت هي معجزة الخَلق السابقة للميلاد والتكاثر، والتي تتجلَّى فيها القدرة الإلهية المتفردة، التي أوجدت أول كائن بشري مخلوق من تراب، وهذا المخلوق لم يكن عليه سوى أن يكون فور أن صدر الأمر الإلهي “كُن”، وكذلك زوجه المخلوقة منه فور صدور الأمر الإلهي “كن” لم يكن أمامها سوى أن تكون.
وبِسرّ تلك النفخة من روُح الله -التي هي من أمره- كانت البداية هي وجود الإنسان الأول غير المولود، ثم كان وجود أنثاه غير المولودة، ثم تلا ذلك وجود كل مخلوق بشري مولود من رحم أم، بعدما كان مجرد نطفة مُلقّحة ناتجة من تزاوج ذكر وأنثى؛ تحولت خلال عمليات خَلق متتالية إلى عَلَقَة، ثم إلى مضغة، ثم إلى جنين مكتمل الهيكل له لحم يكسو عظامه.
ومع وضوح صورة الجسد وتبين معالمه وإمكانية رؤيتها وتلمسها بعد المشاهدة العينية لعملية الولادة، وبالرغم من تأكيد العلم البشري لما ذكرته آيات القرآن الكريم من مراحل الخَلق المتتالية ولمادة الخَلق؛ إلَّا أن الروُح التي هي من أمر الله لم تزل غيبًا، ومن ثم ستظل دومًا مثار تساؤل ومدعاة للحيرة وعلامة على عدم اكتمال المعرفة الإنسانية وقصور الفهم والإدراك البشري مهما وصل العلم إلى منتهاه. وربما يكون ذلك هو السبب في ربط الملحدين بين وجود الإنسان وبين عملية الولادة فقط؛ والتمسك بالتغافل المُتعمَّد عن معجزة الخَلق وإنكار قدرة الخالق أو الإيمان بوجوده تمسكًا بكل ما هو مادي وملموس وتجاهلًا ورفضًا لكل غيب.
وبالفعل لم ينقطع الجدل البشري بين المؤمنين وغير المؤمنين؛ بل وبين المؤمنين فيما بينهم حول معجزات الميلاد بدون أب في إغفال واضح لمعجزات الخَلق بكل مراحله، وذلك بالرغم من كون الخَلق هو أصل وأساس الوجود قبل أن يكون هناك ولادة وإنجاب، هذا بالإضافة إلى تمكّن العلم الحديث من إجراء عمليات التلقيح الصناعي، وزرع البويضات الملقحة داخل الأرحام، وكأن قدرة الإنسان وهو كائن مخلوق من الممكن أن تفوق قدرة خالقه!
ولكن هذا الجدل لن ينفي استمرارية تجدد سر الحياة الذي يكمن في تلك النفخة الربانية في كل مخلوق سواء كان مولودًا أم لا، ولن يُعطِّل كذلك الأمر الإلهي المعجِز بالخَلق أو بالإحياء بعد الموت، وهو أمر خارج عن قدرة أي مخلوق محكوم عليه بالموت بعدما قُدِّرت له الحياة بدون تدخل منه.
ومهما استمر ذلك الجدل فإن هذا الأمر بإحياء آدم بعد خَلقه من تراب، وبإحياء زوجه وهي مخلوقة منه، وبإحياء ذريتهما وكلهم بلا استثناء قد وُلِدوا من رحم أم، سيظل هو سر تفرد القدرة الإلهية بإحياء وإماتة المخلوقات، حتى لو كان منهم من مُنِح تلك القدرة بإذنٍ منه. ومثلما تفردت قدرة الخالق جلَّ في علاه بخلق إنسان بدون أب وأم وبدون ميلاد، وبخلق زوجه منه بدون أب وأم وبدون ميلاد، فهل ستَعجز تلك القدرة الإلهية عن خلق إنسان مولود من أم لم يمسسها بشر؟!
ومثلما كان للخَلْق معجزات إلهية فإن الميلاد كانت له أيضا معجزاته التي لا يمكن أن تنفصل عن معجزة الخلق، ومعجزة الإحياء، والقدرة على البعث بعد الموت. فهل تلك النفخة الربانية الغيبية التي نُفِخت في أول جسد ترابي لإحيائه هي نفسها التي تومض في حنايا كل إنسان دون أن يشعر؛ كي يبقى متعلقًا بما يُنفِّره من كل ما يهبط به بعدما أصبح هبوطه إلى الأرض هو مصيره الحتمي الذي لا فرار منه؟! وهل بسبب ذلك الوميض الخفي بداخل كل إنسان يظل هناك من يتعلق بالرجاء في الصعود، وهو ذلك الرجاء الذي يراود قلب المؤمن كلما شرع في الاقتراب من خالقه؛ حنينًا إلى الجنة ونعيمها، وشوقًا إلى لقاء بارئه والرجوع إليه؟
وها هو الإنسان قد أصبح له وجود بعدما لم يكن شيئًا مذكورًا، وها هو يتمتع بنعمة الحياة بعدما كان ميِّتًا، فهل عليه حال رشده واكتمال عقله وحكمته أن يتبين بنفسه أوجه ضعفه وأولها فطرة التزاوج التي انتفت معها أية محاولة منه لإثبات وحدانيته التي كانت تتمثل في النفس الواحدة، فإذا بها قابلة للتثنية ومُعدَّة لسنة التزاوج التي أدت بعد ذلك إلى التعدد والتكاثر؟ ومع ذلك فإن هذا القصور لا ينفي أبدًا حقيقة فردية الإنسان التي تلح عليه؛ كي يُثبِت انفراده وتميزه ومدى قدرته على تمسكه بهُويته الإنسانية ذكرًا كان أم أنثى!
وما دامت النقيصة الأولى في الإنسان والتي تحول دون اكتمال قدراته وتعاظم صفاته هي فطرة التزاوج، فلربما تكون النفس الإنسانية الواحدة قد تبينت هذا النقص في اللحظة التي خُلِق منها زوجها؛ فأصبح هناك ذكر خُلِقت منه أنثاه، وكأن كلمة النفس المؤنثة والتي ارتبطت بالتأنيث منذ خَلقها لم تكن إلَّا لتوحي لأول مخلوق بشري ذَكَر باحتياجه إلى أنثاه التي بوجودها ستتحقق فطرة الزوجية المفطور عليها كل شيء مخلوق، خَلقه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي ليس كمثله شيء؛ لأنه هو الذي خلق من كل شيء زوجين اثنين ليظل وحده متفردًا بالوحدانية.
وإذا كان مع ميلاد كل إنسان من بني آدم – تتجلى بوضوح معاني الأمومة الفطرية التي بسببها تكابد كل أنثى قدْرًا هائلًا من الألم؛ تتناساه مع تخلصها من آخر قطرة دم فاسدة تخرج من جسدها، فإنه لا يظل مترسخًا بداخل كل خلايا جسدها طوال الوقت؛ سوى ذلك القدْر العظيم من المحبة لوليدها الذي حملته جنينًا في أحشائها شهورًا عديدة، لا يتغذى إلَّا من دمها؛ ليظل فيما بعد وحتى بعد انفصاله عنها وانقطاع غذائه من ثديها – جزءًا أصيلًا منها مرتبطًا بها ومتعلقًا بانتمائه إليها.
لقد قدَّر الله أن يتسم مشهد تعليم آدم للأسماء كلها بالفردية؛ فتفوَّق بتعلمها على علم الملائكة الذين لم يتفرقوا بل ظلوا في حالة جماعية توحي بالاتحاد، ومن ثم امتثلوا جميعًا لأمر خالقهم بالسجود لآدم ومنْ شذ عن صفوفهم لم يكن منهم بل كان من الجن. كما قدَّر الله أيضًا ألَّا يسكن آدم الجنة إلَّا في صحبة زوجه فلم يعد فردًا منذ أن خُلِقت، وهناك انتبه كل منهما إلى نقطة ضعفهما الثانية، وهي شهوة الأكل وتناول الطعام، والتي نفذ منها إبليس فأغواهما بأن يذوقا من الشجرة المُحرَّمة عليهما، مُزيِّنًا لهما إياها على إنها الواهبة للخلود والمانحة للمُلك الذي لا يبلى.
ولكن في لحظة الوقوع في الخطيئة وارتكاب المعصية؛ تجلت الحقيقة أمام آدم وزوجه وتبينا خداع إبليس لهما، فإذا بالخلود الزائف يتحول في لمح البصر إلى هبوط من الجنة ونعيمها؛ لينكشف ما كان مستورًا عنهما من سوءاتهما؛ ومن ثم يبدأ التكاثر الجنسي على الأرض التي أصبحت مِلكًا لاثنين فقط من البشر؛ ولكن مُلكها هذا إلى زوال، وكل بناء فيها مُقدَّر له الفناء، وكل حياة عليها نهايتها الموت وعدم البقاء، ليظل الله هو القادر وحده دون غيره على الإنعام بالخلود، لمن يشاء من عباده.. لأنه هو وحده الحي القيوم المحيي المميت.
وهكذا انتقل آدم وزوجه من النعيم إلى الشقاء؛ بسبب رسوبه هو وأنثاه في الاختبار الأول لطاعة الخالق، والذي نجحت فيه من قبل الملائكة مبرهنين على صدق إيمانهم، بينما لم ينج إبليس من فتنته؛ فثبت كذبه بإدعائه الإيمان بخالقه وطاعته له، فاستحق بذلك طرده بعيدًا عن صفوف الملائكة الطائعين؛ ليظل منبوذًا إلى الأبد تلاحقه اللعنة ويلازمه غضب خالقه.
ومع هبوط آدم وزوجه من نعيم الجنة؛ قُدِّر لذريتهما أن تبدأ حكاية كل منهم على الأرض، مثلما بدأت حكاية أبويهم فيها من قبل، فيذوقون أولًا الشقاء في الأرض؛ ولكن دون أن يُحرَموا من الرجاء في نعيم الجنان؛ بل والسعي إلى الخلود والحياة الأبدية التي لا يزينها لهم الشيطان مثلما أغوى بها أبويهم من قبل؛ ولكن يمنيهم بها ربهم مثوبة لهم إذا ما أخلصوا إيمانهم بوحدانيته، وإذا أطاعوه وتزودوا بتقواه وصالح الأعمال.
ولكن مع اكتمال النعم الأرضية التي تميل إليها الطبائع الطينية – يسهل الركون إلى الترف والبعد عن الورع؛ فيحل الشرْك محل الشكْر، وتنسى معجزة الخلق والانشغال عنه بالميلاد، فتسهل الغفلة عن الخالق بينما لا يمكن تفريغ الفؤاد من حب المال والأبناء.
وهكذا تظل الأمومة مرتبطة بمعنى الرحمة، وتوحي بالرعاية والاحتضان والحنان، ويظل الإنسان يرى كل معاني الرحمة في هذا الرحم الذي احتضنه جنينًا إذا كان يربط وجوده بعملية الميلاد فقط، بينما إذا انشغل بفكرة الخلق؛ فلن يغفل عن قدرة خالقه أو يقنط من رحمته التي لا تُمثل رحمة الأم بوليدها غير جزء واحد من أجزائها المئة.