مع الاعتراف بالمنزلة الخاصة والموضوعية، التي ما يزال يحتلها الخطاب الوحدوي ضمن إطار الفكر العربي؛ ومع الإقرار بأن الخطاب الوحدوي ـ أو أي خطاب أخر ـ لن يتجدد، دون تجدد قضاياه.. فإن قراءة الحاضر العربي، من منظور استشراف مستقبل هذا الوطن، لابد أن تعتمد تنظيم الأفكار حول أسس أخرى ومناهج بديلة للتفكير، تستفيد من الثورة المعرفية الحالية، وتأخذ بالاعتبار التعديلات السياسية التي طرأت على العلاقات الدولية، والتغيرات النوعية التي عدَّلت الأنظمة الفكرية والقيمية.
وهذا يرتب، في رؤيتنا، نظرة جديدة في الأسس التي بُنى عليها الخطاب الوحدوي: القومية ومضامينها وحدودها، كيفية الوحدة وآفاقها المستقبلية. وبالتالي، يرتب نظرة جديدة في الأولويات الاجتماعية والسياسية التي بدأت تلح على المجتمعات العربية، وخاصة تلك التي أخذت تشق طريقها إلى داخل أنظمة القيم العربية.
رأسمال المستقبل
ما وصلنا إليه، في هذا الإطار، يضع اليد على “المطلوب”، أي على الأمر المهم والحاسم الذي ـ يمكن أن ـ يفتح أمام العرب باب المشاركة الفاعلة في الحياة الدولية، وبالمستوى الذي يليق بحجم العالم العربي، ونصيبه من الخيرات الإنسانية، المادية والمعنوية. إذ، ليس المطلوب اليوم السعي إلى إنقاذ تراث الماضي، فقط؛ ولكن، وهذا هو الأهم، بناء رأسمال المستقبل.. ورأسمال المستقبل، هو تحصيل الوسائل النظرية والعملية التي تحتاجها المجتمعات العربية، من أجل ضمان اندراجها في الحركة العالمية والحضارية الراهنة، وتجنب الوقوع في الهامشية أو (الأهرمة).
هذا، وإن كان يفترض قدرة على التفكير الموضوعي في ما وراء “العقيدة الموجِهة” (الأيديولوجيا)، وأبعد من نقدها؛ وإن كان يفترض، في الوقت نفسه، التمييز بين دور العقيدة (الموجِهة)، ودور المعرفة الموضوعية بالواقع “الوطني”، والعالمي، في تحديد طبيعة السياسات العملية المطلوبة.. فإنه، إضافة إلى هذا وذاك، يشير إلى المهمة الأساسية الآن، تلك التي تتجاوز قدرات الأفراد إلى تكامل جهود مؤسسات ومراكز البحث العلمي العربية.
إنها تلك المهمة، التي تتمثل في: “إعادة قراءة الحاضر العربي، من منظور استشراف مستقبل هذا الوطن”، أي إعادة تحديد مرجعية هذه القراءة، “مرجعية مستقبلية”، بدلًا من ـ السائدة حاليًا ـ تلك، “المرجعية الماضوية”.
ذلك هو الدور المنوط بمؤسسات البحث العلمي العربية: ليس، فقط، لجهة تجديد (أو تعميق)، الخطاب الوحدوي؛ ولكن أيضًا، لجهة إنجاز المهمة المطلوبة ومتطلباتها.
بيد أن هذا الدور، من أجل إنجاز المهمة، إياها، يصطدم بالعديد من الصعوبات، التي يتوقف على تجاوزها تفعيل الدور وإنجاز المهمة. ولعل هذه الصعوبات، تنبع من نوعية المهمة ذاتها: “قراءة الحاضر عبر استشراف المستقبل”؛ ولعل بعض الملاحظات يكون مساعدًا على رسم ملامح صورة التعامل مع المستقبل، أو قل صعوبات استشراف المستقبل.
تجاوز الإطلاقية
الملاحظة الأولى، أن العالم قد مرَّ بمرحلة يطلق عليها مرحلة “الإطلاقية النيوتونية”، (نسبة إلى نيوتن)؛ وهي، كما هو معروف، بمثابة نسق كامل في كيفية تحليل العالم وتفسيره، من كافة جوانبه. هذا النسق، النيوتوني، الإطلاقي، الكوني، يتسم بالشمول وبإطلاقية الحكم بدرجة كبيرة، وهو ما ميز بدايات العصر الصناعي في أوروبا، ذلك الذي قام على أساس ميكانيكي.
وقد ظل هذا النسق سائدًا، حتى جاء “أينشتين”، بنسبيته الشهيرة، تلك التي حولت المجرى فجعلته قائمًا على نسق متكامل (آخر) في رؤية وتفسير العالم، مُغاير لذلك الذي سبقه ومفند له. ومن ثم، أصبح لنسبية النظر والتفسير، دورها المتجلي بوضوح في كافة ميادين العالم الحديث، بل والحياة بأكملها؛ وأصبحت العلمية مقترنة بالنسبية، وأصبح كل من يدعي امتلاك “الحقيقة المطلقة”، مجرد واهم ذي فكر غير سوي.
إلا أنه، في الراهن، يمر مفهوم النسبية بتحول ينزع إلى الإفراط، ليصبح لدينا ما يمكن أن نطلق عليه: “النسبية المفرطة”. يحدث ذلك نتيجة الفيض المعلوماتي، حيث تصبح وفرة المعلومات عند درجة بعينها، عاملًا من عوامل الفوضى أو الحيرة، إلى الدرجة التي يصير معها القول الفصل، بصحة أو خطأ سلوك، أو قرار، أو ظاهرة ما، أمرًا عسيرًا.
وفي جملة، لقد تجاوز العالم الإطلاقية، التي تعتمد “إما هذا وإما ذاك”، في حكم كلي شامل؛ كذلك، تجاوز مرحلة النسبية، حيث تتعدد الآراء والرؤى المنضبطة؛ ليلج في الراهن والمستقبل ـ بدرجة أكبر ـ عبر مرحلة الإفراط في النسبية، حيث تتعدد المصادر، والأحكام، والزوايا، والرؤى، والثقافات.. إلخ، إلى حد مذهل، على نطاق عالمي في عصر المعلومات. وهنا يكمن أحد أهم التحديات المستقبلية.
تجاوز الفواصل
الملاحظة الثانية، أن العالم ينتقل الآن إلى مرحلة يفقد خلالها “مفهوم الحدود الفاصلة”، نفس دلالته التقليدية السابقة؛ وهو ما يمكن رصده على عدة مستويات، نظرية واقعية. فمثل ما هناك تلاشٍ متنامٍ للحدود الفاصلة بين العديد من الحقائق ذات الحدود الثابتة والمستقرة؛ هناك تلاشٍ متنامٍ لحدود الجغرافيا التقليدية. أيضًا، هناك تلاشٍ متنامٍ لحدود الأعمار وما يرتبط بها من خبرات ومعيار للتفوق (أصبح بإمكان الأصغر سنًا، في ظل نظم المعلومات الحديثة والتقانة المتطورة، التفوق على الأكبر سنًا في نفس المجال، نتيجة تجدد العلوم كيفيًا في مدى زمني محدود). هذا، فضلًا عن التلاشي المتنامي في الحدود الفاصلة بين النظريات المختلفة والمجالات العلمية بدرجات يمكن ملاحظتها بسهولة أكبر.
بعبارة أخرى، بعد أن انتقل العالم عبر تاريخه من عصر “العالِم الشامل”، الذي كان يجمع بين الطب والفلك والفلسفة والجغرافيا، إلى عصر “العالِم المتخصص”، في فرع دقيق بعينه؛ ينتقل الآن ـ في الراهن ومستقبلًا بدرجة أكبر ـ إلى عصر العالِم والمفكر متعدد الانتماءات العلمية والمعرفية بشكل عام، والذي يقع مجاله على حدود العديد من العلوم والمداخل.
بل يمكن القول: إننا ننتقل من عصر “النموذج الصرف”، إلى عصر “النماذج المتمازجة”. وهنا، تكمن واحدة من إشكاليات المستقبل، أو بالآحرى إشكاليات القدرة على “استشراف المستقبل”.
وماذا بعد(؟)
وبعد.. فإن هاتين الملاحظتين، ضمن العديد من الملاحظات غيرهما، تؤكدان على أن الوعي بطبيعة المرحلة التي نعايشها، كمرحلة انقطاع وتمايز في تاريخ البشرية، يمنحنا قدرًا أكبر من التفكير الإيجابي تجاه المستقبل، وتجاه إعادة تحديد مرجعيتنا، كمرجعية ـ لابد أن تكون ـ “مستقبلية”؛ بل، وتجاه كيفية التعامل، والتفاعل، مع تغير “جدول الأعمال التاريخي”، التغير بالشكل الذي نراه الآن.
وبالتالي، فهناك أهمية قصوى للتركيز على عناصر “الفاعلية”، بدلًا من تشتيت الجهود على مدى طيف واسع من العناصر التقليدية، التي تحولت راهنًا ـ ودون ما مبالغة ـ إلى عناصر “لا منتجة”.