في حوار أجري معه قبل وفاته٫ أوضح الأديب السوداني الراحل الطيب صالح، أن روايات الأديب الراحل نجيب محفوظ قد أغنت كثير من الباحثين عن مطالعة كتب عن تاريخ مصر؛ حيث أنها لخّصت تاريخ البلاد الحديث لاسيما الشق الاجتماعي منه.
أغلب ظني أنه لو امتد العمر بالطيب صالح؛ لقال الجملة ذاتها عن أدب الكاتب الراحل بهاء طاهر، حيث إن روايات الأخير استطاعت أن تُجمِل تجربة المصريين التاريخية على مدار قرن من الزمان.
وأشير هنا تحديدا إلى رواية طاهر “قالت ضحى” والتي صدرت في ثمانينات القرن العشرين، وتتناول حقبة الستينات وتأثيرها على المصريين، سواء من المنتمين للطبقة الوسطى أو البسطاء، الذين يمثلون السواد الأعظم من شعب مصر.
يمهد الراوي في رواية طاهر، والذي لم يصرح باسمه على الإطلاق، لما حدث في يوليو من عام ١٩٥٢، بذكر الأجواء التي سادت مصر قبل ذلك الحدث، فيفيض في ذكر تجربة أبناء جيله في مقارعة الاستعمار الأجنبي ودور الحركة الطلابية في ذلك، والذين كانوا على درجة من الإدراك تجعلهم يشعرون أن “كل شئون العالم تخصنا” فيتظاهرون لا من أجل جلاء المحتل عن “وادي النيل” فحسب بل تضامنا مع كل من يعاني من نير الاحتلال مثلهم، سواء العراق أو فلسطين أو غيرها.
يصف الراوي المشهد فيقول “ترتفع القبضات والهتافات من أجل مصر وفلسطين وتونس وسوريا والشرق كله” ثم يتبارى الجميع في “الحماس وفي الوطنية” ويصادر الطلبة الغاضبون أول ترام، ويتجهون به إلى ميدان الاسماعيلية (التحرير حاليا) ويصطدمون بجنود الاحتلال الانجليزي، فيسقط شهداء وجرحى برصاص الاحتلال، وينجو كل من الراوي وصديقه الحميم ورفيق نضاله حاتم، ولا يفت هذا في عضدهما، بل يواصلان التظاهر والنضال.
ثم تأتي يوليو ١٩٥٢، وتحقق الكثير مما ناضل بطل الراوية لأجله، فيتوحد معها ومع أهدافها هو وحاتم، ولكن أمرا ما يتغير بداخل الراوي، يخبو بداخله المناضل القديم تحت وطأة الوظيفة الحكومية وروتينها الممل، ويبتعد تدريجيا عن مجال العمل العام؛ اللهم إلا عضويته الاسمية فيما عُرف بهيئة التحرير، شأنه شأن صديقه الذي ابتلعته أيضا دائرة الوظيفة والعمل الحكومي.
هنا تبرز شخصية سيد القناوي التي أبدع طاهر في رسم ملامحها، فهو واحد من الملايين من بسطاء أرض مصر.
وتجمع – أو قل تلخص- شخصية سيد التي صاغها الأستاذ طاهر ببراعة بين سلبيات الفترة وإيجابياتها فهو ممن أتاحت لهم يوليو التعلم والتوظيف، ولكنه يُبعد من قبل الفاسدين في المؤسسة الحكومية، التي يعمل بها عن عمله بسبب مطالبته بحقوق العمال من أمثاله، ويُرسل بمكيدة منهم إلى أرض اليمن ليقاتل هناك ويصاب هناك اصابة بالغة.
ولكن هذه الإصابة لا تغير من أمرين في داخله: إيمانه بما أُرسل لليمن لأجله، وإيمانه بضرورة الدفاع عن الحق؛ فيعود لعمله لينادي بحقوق العمال ثانية، ويكشف الفاسدين.. ويبدو أن عدوى شجاعته تصيب بطل الرواية فيصحو المناضل القديم بداخله، وينضم إلى سيد، ليكون “الحاج سيد” بحق كما تصفه بطلة الرواية “ضحى” في نهاية الرواية “آوزير” الجديد الذي ينهض في كل مرة، مهما كانت الظروف تيمنا بالأسطورة المصرية القديمة.
هنا تتبدى ثنائية متكررة في أعمال طاهر: القدرة والعجز.. قدرة البسطاء على الفعل والتي يحسدهم عليها المتعلمون.
على مدار صفحات “قالت ضحى” التي لا تتجاوز ال ٢٠٠ صفحة، استطاع بهاء طاهر رسم صورة لمجتمع حي، مر على مدار نحو عشرين عاما بأحداث غيّرته تغييرا جذريا، وأثرت في أفراده بالسلب والإيجاب على حد سواء.. أيما تأثير.