فن

رجل يُدعى أوتو”.. عن اكتشاف الحاجة الماسة للعطاء!

في أواخر أغسطس 2012، نشرت رواية “رجل يدعى أوفي” للكاتب السويدي الشاب فريدريك باكمان، وقد لاقت الرواية صدى طيبا من جانب النقاد والجماهير، حتى أنها صارت من أكثر الكتب مبيعا في ذلك العام، بعد ذلك بثلاث سنوات؛ أغرى ذلك النجاح الكبير المخرج وكاتب السيناريو السويدي هاينس هولم ‏- بعمل فيلم مأخوذ عن الرواية.. حقق الفيلم نجاحا محدودا على مستوى العالم، ورشح لعدة جوائز منها جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 2017،.. لم تنته القصة عند هذا الحد، فلقد شهد العام الماضي اختيار المخرج والمنتج والسيناريست الألماني مارك فورستر للقصة لتكون محور فيلمه “رجل يدعى أوتو” من بطولة النجم توم هانكس، مع تعديلات طفيفة جدا في السيناريو صنعها فوستر بمعاونة ديفيد ماجي.

عُرض الفيلم للمرة الأولى مطلع هذا العام، وحقق نجاحا كبيرا وبلغت إيراداته نحوا من 175 مليون دولار، في حين لم تتجاوز تكلفته الإجمالية الخمسين مليون دولار.

من خلال أداء بالغ الدقة يغوص بنا هانكس في شخصية البطل أوتو، وهو مُسن في الخامسة والستين، يعاني أشد المعاناة بعد رحيل زوجته سونيا “راشيل كيلر” التي كانت بمثابة نافذته الوحيدة التي يطل منها على العالم.

لقاؤهما الأول كان عقب رفض التحاقه بالجيش الأمريكي بسبب مرض وراثي في القلب.. في محطة القطار، حين يذهب الشاب لقطع تذكرة السفر، تنعكس صورة العجوز على الطاولة التي تجلس عليها الموظفة في إشارة إلى حالة الإحباط الكاملة التي وقع فيها الشاب، لتكشف أيضا عن جوانب عديدة في شخصية الشاب الخجول الانطوائي الذي يتنازل عن حلمه في أن يصبح مهندسا متخصصا في محركات السيارات، في مقابل أن يضمن عملا يوفر له راتبا معقولا، ويلبي له في الوقت نفسه؛ ذلك الميل نحو الصرامة والانقياد التام للقواعد والانضباط.

صورة المُسن منعكسة في زجاج مكتب تذاكر القطار، تعبيرا عن حالة الإحباط التي يعاني منها الشاب أوتو
صورة المُسن منعكسة في زجاج مكتب تذاكر القطار، تعبيرا عن حالة الإحباط التي يعاني منها الشاب أوتو

لكن الأقدار تحمل لأوتو النموذج المغاير لشخصيته.. تُسْقِط فتاة متعجلة روايتها على رصيف المحطة، ويندفع أوتو لإرجاع الرواية لها.. ويؤكد لنا مارك فورستر من خلال اسم الرواية فكرة الفيلم الرئيسة، التي تعتمد الاختلاف أساسا لإدراك حقيقة الوجود الإنساني والسعادة.. فالرواية ليست إحدى أشهر الروايات الأمريكية في أوائل السبعينيات، زمن وقوع المشهد، لكنها رواية “المعلم ومارجريتا” للكاتب الروسي ميخائيل بولجاكوف!

الفتى المُعسر المتنازل عن طموحه، يتحول بدخول سونيا إلى حياته إلى شخص آخر؛ يكمل دراسته الجامعية وينال شهادته في هندسة المحركات بتفوق ويحصل على وظيفة مناسبة.. تؤهله للزواج من فتاته التي يقضي معها حياة سعيدة رغم الكارثة الإنسانية التي تعرضت لها سونيا بسبب حادث سير.

أوتو وسونيا في القطار عند لقائهما الأول
أوتو وسونيا في القطار عند لقائهما الأول

يستطيع الزوجان التغلب على آثار هذه الضربة القوية.. وتستمر بهما الحياة إلى أن تصاب الزوجة بالسرطان، لترحل في عمر الثالثة والستين.. مخلّفة أوتو لمصير مؤلم مع ذاته المضطربة التي وقفت سونيا بينه وبينها على مدى نصف قرن ويزيد.

تتجلى أزمة المُسن أوتو، في نُشدان الكمال والدقة في كل شيء حوله.. أنتج ذلك صدامات متعددة في العمل قبيل تقاعده، ثم انتقل الخلاف ليصبغ علاقته بجيرانه في ذلك المجمع السكني المعرض للإخلاء؛ جرّاء تصاعد أطماع شركة الإسكان التي أزالت الأشجار والمناطق الطبيعية، بهدف تحويل المنطقة إلى منطقة إسكان فاخر.. الطريف أن اسم الشركة  “Dye & Merica” وهو الاسم الذي يعبر عنه أوتو بأمريكا تحتضر، في استدعاء آخر لتناقض جديد يثرى فكرة الفيلم.

تحت وطأة العزلة والشعور الحاد بالألم يقرر أوتو الانتحار.. لكنه يفشل.. في إحدى المرات ينقذ أوتو مسنا سقط على قضبان القطار؛ فيتحول إلى بطل شعبي على السوشيال ميديا.. لأنه كان المتقدم الوحيد لإنقاذ المُسن؛ لانشغال الجميع بعملية التصوير عبر الهواتف. ثم تظهر أسرة جديدة في المجمع السكني.. وهو الحدث الأبرز الذي سيغير مجريات القصة على نحو هادئ وبروية فنية متمهلة.

فبظهور الأسرة ذات الأصول اللاتينية، ستتغير حياة أوتو تدريجيا -إن شئنا الدقة- سيبدأ العودة إلى الحياة مجددا.. ماريسول الزوجة الحامل والأم لطفلتين التي لعبت دورها ماريانا تريفينيو، على نحو كوميدي.. امرأة مفعمة بالحياة لدرجة العشوائية، يكمل فوضى حياتها السعيدة غير المبالية، تومي – أداء مانويل جارسيا رولفو- زوجها المحب الأرعن الذي يفشل في عمل أبسط الاشياء، وهو على النقيض تماما من الشخصية الأكثر تأثيرا في حياتها والدها الذي رحل عن العالم منذ فترة وجيزة، وربما يفسر هذا انجذاب ماريسول لأوتو من البداية، ومحاولاتها التقرب منه بتقديم الوجبات الشهية له، ودأبها في معرفة أسباب حزنه وعزلته.

ماريسول تحاول التقرب من أوتو المكتئب
ماريسول تحاول التقرب من أوتو المكتئب

يكشف لنا فورستر عن جانب هام من شخصية أوتو، عندما يتحدث مع ماريسول عن سبب خلافه مع جاره روبن الذي كان صورة منه في كل شيء، لكن الخلاف تحوّل إلى قطيعة بعد تخلّي روبن عن سيارته من ماركة فورد، وشرائه لسيارة تويوتا.. وهو ما لم يسامحه أوتو عليه أبدا، لأن ذلك الجانب المتطابق بين الصديقين كان بمثابة الركن الذي يحتفظ فيه أوتو بشخصيته الأولى قبل ظهور سونيا في حياته.

لكن أوتو يقف بإصرار عند قناعته بضرورة إنهاء حياته ليكون إلى جوار سونيا التي أدت دورها في مرحلة الشباب الممثلة راشيل كيلر، ولم تظهر وهي في سن الشيخوخة، في تأكيد على أنها كانت نموذجا للحياة المتوهجة بالشباب والأمل والتواصل الإنساني، وهو ما سيكشف عنه مالكوم، أحد تلاميذها الذي يعاني من اضطراب الهوية الجندرية.

يكتشف أوتو أن الجميع في حاجة ماسة إليه، وأن انتحاره يعني تخليا وأنانية لا يليقان به.. ماريسول وتومي والصغار في حاجة ماسة إليه، وكذلك الشاب مالكوم الذي طرده والده من المنزل، جاره وصديق عمره المُقعد روبن وزوجته أنيتا اللذان يتعرضان لمؤامرة للطرد من منزلهما، بمعاونة ولدهما الوحيد الذي هجرهما منذ عشر سنوات.. جيمي الذي يمارس الركض طوال الوقت، والذي كانت تدعوه سونيا كثيرا لتناول طعامها الشهي -إجادة الطهي قاسم مشترك بين شخصيتي سونيا وماريسول له دلالته- حتى القط المشرد الذي اختار منزل أوتو ليكون له مأوى، ويلمح لنا المخرج في غير مشهد أن روح سونيا قد حلت في القط الذي ينام مكانها في السرير، ويضع يده في كف أوتو كما كانت تفعل سونيا.

أوتو مع جاره جيمي المولع بالركض واللياقة البدنية
أوتو مع جاره جيمي المولع بالركض واللياقة البدنية

ينصرف أوتو عن الرغبة في الانتحار بعد أن أدرك أن عليه أن يرعى هؤلاء جميعا، وأن يمنحهم الاهتمام والحب، وأن ذلك سبيله الوحيد للحياة، والوفاء لحبيبته التي أعطته الحياة ومنحته الإحساس بالسعادة.. فهو ذو قلب كبير كما فهمت ماريسول التي لا تجيد الإنجليزية، في مشهد المستشفى، وتساءلت هو كذلك حقا، لكن كيف تعتبرون ذلك مرضا؟! بالطبع لم تقصد الطبيبة ما فهمته ماريسول، فلقد كانت تشير إلى مرض تضخم عضلة القلب الذي عانى منه أوتو طوال حياته.

أوتو محتضنا قطه يتابع قضية منزل روبن
أوتو محتضنا قطه يتابع قضية منزل روبن

لم يقرأ كاتب هذه السطور رواية فريدريك باكمان، ولم يشاهد فيلم هاينس هولم، لذلك لا يستطيع تناول أي جوانب تتعلق بالمقارنة بين الفيلمين، أو عن مدى نجاح فورستر في النفاذ إلى عمق مبتغى باكمان.. لكن ما يمكنه الذهاب إليه أن الفيلم حمل رؤية إنسانية بالغة الروعة من خلال أداء وقعي سلس شديد العذوبة من الممثلين، وإدارة متميزة لمارك فورستر.

ومازال توم هانكس قادرا على إثبات موهبته الفذة في مختلف الأدوار.. ونوقن أنه ما زال لديه المزيد والمزيد.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock