إذا كان القرن العشرين، قد شهد أعذب أغنيات الربيع العامية والفصحى؛ فإن القرن الواحد والعشرين لم يعزلنا عن الطبيعة وجمالها فحسب، بل أضاف اختلالا واضحا في التوازن البيئي؛ فأصبحنا نعاني من مشكلات تغيّر المناخ الذي بات متقلبا في كل يوم وليلة، حتى اختلفت معالم الفصول الأربعة، بعدما أصبح التلوث هو سمة ذلك العصر. ناهيك عن تلك التكنولوجيا الرقمية، وذلك الذكاء الاصطناعي الذي يجذب القاصي والداني، ولم يترك للكثيرين فرصة كافية للعودة إلى الفطرة البشرية، التي من شأنها أن تعيد الإنسان إلى الامتزاج بالطبيعة، فإذا به يكتفي بالعيش داخل صناديق مغلقة في انعزال واضح عن تأمل كل جمال أو الاستمتاع به.
وما دام هذا الانعزال العام؛ قد بات واضحًا في اختيار كلمات أغنيات هذا العصر التي تخلو من أي وصف للطبيعة أو تأمل لجمالها، فربما ليس علينا سوى العودة قليلًا إلى الوراء؛ كي نتفحص بعض الأغنيات التي كانت تعبر عن روح حقبة زمنية؛ اتسم فيها المزاج العام بسمات، لم نعد نشعر بها الآن؛ خاصة في ظل المشاحنات والصراعات الدموية التي تشتعل حولنا كل يوم؛ حتى كادت كلمة الربيع تختفي مثلما تلاشت معالم الفصل المُسمَّى بـالربيع.
فلا بأس إذن ألَّا يتردد إنسان هذا العصر في اتخاذ القرار، بالابتعاد قليلا عن تلك الحياة الرقمية المزدحمة بالتواصل الخاطف داخل صناديق مغلقة، وأمام شاشات مصمتة، ليقترب بعض الشيء من جمال الطبيعة؛ محاولًا استنشاق نسماتها العليلة والتمتع بزهورها الفاتنة وسحرها الخلاب.
ومن خلال هذه الجولة الخاطفة مع الطبيعة والزهور؛ سنستأنف رحلتنا مع أغنيات الزهور القديمة لواحدة من أوائل المطربات في القرن العشرين، ومن أكثرهن غناءً للورود –بعد كوكب الشرق أم كلثوم– وهي الفنانة فتحية أحمد [1898-1975] المعروفة بمطربة القطرين، والتي عاصرت الشيخ سيد درويش، وغنت أشهر ألحانه في أوبريتاته مثل: الحلوة دي، وطلعت يا محلا نورها، و زوروني كل سنة مرة.
كما اشتهرت أيضًا المطربة فتحية أحمد، بغناء طقطوقة يا حلاوة الدنيا للشاعر محمود بيرم التونسي وألحان الشيخ زكريا أحمد عام 1945، والتي شدت بها فيما بعد الفنانة حورية حسن.
أما بالنسبة للطبيعة والورود، فقد غنت المطربة فتحية أحمد الكثير من أغنيات الزهور، ونذكر منها على سبيل المثال أغنية أحب الورد عام 1953، من كلمات الشاعر محمد الحسيني وألحان الملحن السكندري محمد عفيفي.. وتقول كلماتها: “أحب الورد وأغني، بِحُب الورد ألحاني، أشوف القلب متهني، أغني في هواه تاني، وأحب الورد على غصنه، أصارحه واشتكي ما بي، وأناجي في وحدتي حسنه، يفكرني بأحبابي”.
ولها أيضًا موال يا وردة لونك عجب الذي تقول كلماته: “يا وردة لونك عجب عالغصن محلاكِ ، ياوردة يا مفتحة سبحانُه حلَّاكِ، أمانة جودي بنظرة للي يهواكِ، حبيت ياوردة أقطُفكْ الشوك جرح إيدي، الله يصُونك على غصنك ويرعاكِ”.
ومن كلمات الشاعر الغنائي الكبير عبد الفتاح مصطفى، وألحان الموسيقار أحمد صدقي غنت المطربة فتحية أحمد أغنية قلوب الورد. ومن أغنياتها أيضًا أغنية أمانة يا روضة يا جميلة، وهي أغنية عاطفية من كلمات الشاعر عصمت عبد الكريم، وألحان الموسيقار عزت الجاهلي.
ومن أقدم الأغنيات عن الورود بالعامية المصرية، طقطوقة يا وردة مالك دبلانة، التي غنتها المطربة نادرة أمين أميرة الطرب [1906-1990] وهي من ألحانها ومن كلمات الشاعر إدوارد سليمان. والفنانة نادرة أمين هي صاحبة لقب أول مطربة وممثلة في تاريخ السينما المصرية والعربية، إذ كانت بطلة أول فيلم غنائي ناطق في السينما المصرية، وهو فيلم أنشودة الفؤاد الذي عُرِض عام 1932، ولقد لفتت الأنظار إليها في ظل منافستها لكل من المطربتين منيرة المهدية وفتحية أحمد بسبب قدرتها على التلحين إلى جانب إجادتها العزف على العود.
كما غنت أيضًا نادرة أمين للزهور أغنية بين الزهور والميه تلقى يا شاكي دواك، وهي من كلمات محمد محمود الهلاوي وألحان الفنان اللبناني فريد غصن.
أما المطربة والممثلة نجاة علي [1913-1993]، التي اشتهرت بأغنية فاكراك ومش هانساك والتي اعتزلت في أوائل الخمسينيات، فلها أغنية يغلب عليها الجانب العاطفي تسمى ورد الربيع من كلمات إدوارد سليمان وألحان عبد الفتاح بدير، ولها أيضا أغنية آدي الورد وآدي الفل.
وهناك أيضا المطربة شافية أحمد [1923-1983] التي بدأت مشوارها الفني في الإذاعة بالإنشاد الديني، ثم أطلِق عليها فيما بعد مطربة الزهور؛ لأنها غنت العديد من الأغنيات عن الزهور والطبيعة مثل: يا زهر البنفسج، والفل والياسمين، ويا زهرة البساتين، ويا روضة الأغصان لما فتَّح وردك، وهي من كلمات بديع خيري وألحان فريد غصن، وأغنية زرع البوادي جميل، وأغنية الشمس والهوا والميه والشجر، وأغنية الفجر قام شقشق والطير صحي وزقزق والورد فتَّح عيونه على غصنه واتزوق، وأغنية يا ورد مالَك، وهي من ألحان الموسيقار أحمد صدقي، وأغنية (يا عاشقين الورد) من كلمات أحمد فؤاد شومان وألحان علي فراج.
كما اشتهرت المطربة شافية أحمد بغناء ألحان الشيخ سيد درويش مثل طقطوفة طلعت يا محلا نورها، هذا بالإضافة إلى ارتباط اسمها بالصورة الغنائية الإذاعية، نزهة المعروفة بعنوان الجوز الخيل والعربية، التي أنتجها التلفزيون بالرسوم المتحركة، وهي من كلمات الشاعر الغنائي الكبير عبد الفتاح مصطفى وألحان سيد مصطفى، الذي اشترك معها في غنائها بالتعاون مع المطرب كارم محمود.
ومن أشهر الأوبريتات الغنائية التي أدتها المطربة شافية أحمد بصوتها في الإذاعة المصرية، أوبريت قطر الندى مع المطرب كارم محمود، وهو من ألحان الموسيقار أحمد صدقي وتأليف الشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز. كما اشتركت في الأوبريت الغنائي الشهير الليلة الكبيرة من ألحان سيد مكاوي وتأليف صلاح جاهين إذ ارتبط صوتها بمقطع يا أم المِطّاهر رُشي الملح سبع مرات.
أما الشاعر الغنائي عبد الفتاح مصطفى الذي نظم كلمات أغنية قلوب الورد للمطربة فتحية أحمد، والذي غنت له في الأربعينيات المطربة جيهان قصيدة هيا إلى المروج، والمطربة آمال حسين قصيدة أحلام الزهور، فقد أنشدت له المطربة والممثلة اللبنانية نازك [1928-1999] طقطوقة أنا الربيع يا جميلة، ولحنها زكريا أحمد، وصدرت عام 1958.
“أنا الربيع يا جميلة ياللي في ظل الخميلة، أنا النسيم اللي هفهف جنب الضفيرة الطويلة، أنا الفراشة اللي جاية تبوس عينيكِ الكحيلة، يا جميلة شوفي على كل وردة قصة غرام الورود أنا اللي أعصر ورقها وأصبغ بلونه الخدود، واخللي كل الصبايا تعرف جمال الوجود يا جميلة، مالك وكنز النجوم والفضة ملو البحور، واللولي مبدور نادى على الزهور، والليل ستايره قصيرة والنور عمود بنور يا جميلة، بيني وبينك معاد زي بستان جميل يا جميلة، بحب ليلى وعبلة وحب عزة لجميل، وأي حواء جميلة لكل آدم جميل آه يا جميلة يا جميلة”.
هذا وما زالت أغنيات الربيع القديمة وكل ما تغنَّى به المطربون والمطربات عن الزهور وألوانها والورود وجمالها من الصعب حصره بدقة أو إجماله في عدة سطور، ولكننا سنحاول إلقاء نظرة سريعة على بعض منه في المقال القادم، كي نختم به ما بدأناه من جولتنا الربيعية بين حكايات زهوره البديعة وأغانيها القديمة بالعامية المصرية.