هناك العديد من المحددات الحاكمة للموقف الصيني، حيال تطورات الأوضاع الداخلية في السودان، منذ بدء الأزمة في منتصف أبريل الماضي؛ وهي المحددات التي تستند إلى حرص بكين على استدامة منظومة أهدافها ومصالحها الاستراتيجية، ولاسيما المصالح الاقتصادية، وتدفقات النفط من دولة جنوب السودان عبر السودان؛ فضلًا عن المحددات الجيوسياسية الخاصة بمنطقة القرن الأفريقي ككل. ولعل ذلك يبدو بوضوح في كيفية التفاعل الصيني مع أحداث السودان، من خلال الحياد المشوب بالحذر، ولاسيما في ضوء تلاحق الأحداث بشكل كبير وعدم استقرارها في الفترة الأخيرة.
واللافت، أن التفاعل الصيني لم يتغير في أحداث السودان، عنه في أي صراع آخر؛ من حيث الاحتفاظ بالموقف “البراغماتي” المعتاد للسياسة الخارجية الصينية، الذي دائمًا ما يدعو إلى ضبط النفس والحوار السلمي، ولاسيما أن الصين اعتادت على الاضطرابات السياسية والاجتماعية المتكررة في السودان.
موقف الصين
لا تبدو الصين على استعداد لإلقاء ثقلها الدبلوماسي في عملية وساطة، بين الجيش وقوات الدعم السريع؛ كما لا يُرجح أن تنحاز لأحدهما على حساب الآخر، لأسباب متعددة.. أهمها سببان رئيسيان:
السبب الأول: تبني نهج الحياد تجاه طرفي الأزمة؛ وهو النهج الذي يتماشى مع أسلوب الصين المتوازن والحذر، القائم على الدبلوماسية الهادئة، في سياستها الخارجية، تجاه القارة الأفريقية بوجه عام. وقد تبلور الحياد الصيني في عدم الإعلان عن الانحياز إلى أي من طرفي الأزمة؛ إذ لم تصدر أي بيانات رسمية تشير إلى وجود اتصالات؛ لترجيح طرف على حساب طرف آخر.
وفيما يبدو، يستند الحياد على رغبة صانع القرار الصيني، في الإبقاء على مسافة من الصراع، خاصة أن أبعاده ونتائجه التي قد تؤثّر على المصالح الصينية، لم تتضح إلى الآن؛ إلى جانب أن تداخل الأجندات الدولية والإقليمية، يرفع من منسوب حذر المقاربة الصينية المعتمدة، كمنهجية عامة.
السبب الثاني: الدعوة إلى حل الصراع عبر الحوار؛ وقد تبلورت هذه الدعوة، عبر بيان وزارة الخارجية الصينية، في اليوم التالي لاندلاع الصراع في السودان، 16 أبريل الماضي، الذي أشار إلى أن الصين “تأمل في أن تُعزز الأطراف السودانية الحوار، وأن تتحرك بشكل مشترك تجاه عملية الانتقال السياسي”؛ ومؤكدًا على “قلق الصين البالغ بشأن تطورات الأوضاع في السودان”؛ فضلًا عن أنه حثَّ طرفي الأزمة على “وقف إطلاق النار لمنع تصعيد الموقف”.
أهمية السودان
ربما يعود نهج الصين في الحياد الحذر، تجاه تطورات الأحداث في السودان، ودخول قوى دولية وإقليمية على خط الوساطة بين الطرفين المتصارعين، وفي مقدمتها الوساطة السعودية الأمريكية.. إلى عاملين أساسيين، يُناقض كل منهما الآخر، هما:
العامل الأول يتعلق بالتراجع النسبي لأهمية السودان لدى الصين؛ حيث أدت صادرات النفط السودانية إلى الصين، التي بدأت مع منتصف تسعينات القرن الماضي، إلى تحوّل السودان إلى أهم شريك تجاري للصين في أفريقيا؛ إلا أن هذه الأهمية قد تراجعت، نسبيًا، في عام 2011، مع انفصال جنوب السودان الذي تتركز فيه معظم ثروة السودان النفطية. وقد تبدى هذا التراجع النسبي في تردد بكين في أداء دور ملموس خلال المفاوضات، بين المكونين العسكري والمدني، حول المرحلة الانتقالية، التي جرت برعاية رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في عام 2020، والتي أدت قوى إقليمية أخرى، كدولة الإمارات والسعودية، دورا محوريًا في إنجاحها.
العامل الثاني يرتبط بموقع السودان الحيوي على البحر الأحمر؛ إذ رغم التراجع النسبي لأهمية السودان لدى بكين، بفقدانها 75% من النفط، إلا أن الخرطوم لا تزال الممر الرئيس لهذا النفط، نفط جنوب السودان، عبر موانئ البحر الأحمر. أضف إلى ذلك، أن الموقع الجيواستراتيجي للسودان، عند مداخل البحر الأحمر، يُعد أساسيا في المبادرة الصينية، مبادرة “الحزام والطريق”، فضلًا عن غناه بالموارد الطبيعية، وأنه يأتي في المرتبة الثالثة لإنتاج الذهب في أفريقيا. وتكفي ملاحظة أن هناك 130 شركة صينية تعمل في السودان، في مجالات مختلفة.
أسباب متعددة
يمكن تحديد دوافع الموقف الصيني، وتفاعلاته، تجاه تطورات الأوضاع في السودان، منذ بدء الأزمة في 15 أبريل الماضي.. كما يلي:
أولًا: مصالح الصين الاقتصادية والنفطية مع السودان؛ حيث ترتبط الصين بعلاقات اقتصادية وثيقة مع السودان؛ إذ تُعد بمنزلة ثاني أكبر شريك تجاري له في عام 2022، وبحسب موقع “الميادين”، في 23 أبريل الماضي، بلغ حجم التجارة البينية بينهما، في العام الماضي، 2022، نحو 2.9 مليار دولار أمريكي؛ كما وقّع الطرفان اتفاقيات تعاون اقتصادي وتكنولوجي، في نوفمبر 2022، بقيمة تصل إلى نحو 17 مليون دولار.
أضف إلى ذلك، أن السودان يُعد وجهة هامة لاستثمارات الصين في الطاقة الخارجية؛ حيث يستفيد من منشآت المعالجة وخطوط أنابيب نقل النفط، القادم من جنوب السودان، ولاسيما في ضوء أن الصين هي أكبر مشترٍ لنفط هذا الأخير، الذي يُمثل نحو 2 بالمائة من احتياجاتها النفطية. ورغم أن جنوب السودان يمتلك معظم احتياطات النفط السوداني، إلا أن معظم خطوط الأنابيب ومنشآت المعالجة مملوكة للسودان، ما يُحدد تدفق النفط بشكل كبير.
ثانيًا: القروض الصينية وإشكاليات الديون السودانية؛ ففي التاسع من مايو الجاري، ذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، أن ديون السودان المستحقة للصين بلغت 5.12 مليار دولار، في أوائل عام 2022 الماضي؛ إلا أن بعض المحللين الاقتصادين أشار إلى أن هذا لا يشمل تسهيلات الدفع المسبق للنفط، والتي هي في الواقع قروض من كيانات صينية، يُفترض أن تسدد من عائدات شحنات النفط.
أضف إلى ذلك، فيما يخص إشكاليات الديون السودانية، أن أرقام صندوق النقد الدولي، بحسب الصحيفة، تُظهر أن السودان متأخر بالفعل في الوفاء بالكثير من ديونه الخارجية، التي تساوي أكثر من 140 % من الناتج المحلي الإجمالي، بما في ذلك ديون كيانات صينية.
ثالثًا: التخوف من تأثير الصراع على دول الجوار؛ إذ تخشى الصين أن تؤثر الأزمة الحالية في السودان، على استقرار الأوضاع في دول الجوار الإقليمي للسودان، وعلى رأسها مصر وإثيوبيا؛ اللتين تربطهما بالصين منظومة أهداف ومصالح استراتيجية، ولاسيما على الصعيد الاقتصادي.
وبحسب موقع “إنترريجونال” للتحليلات الاستراتيجية، في 3 مايو الجاري، جاءت مصر ضمن أكبر خمسة شركاء تجاريين للصين في أفريقيا، في عام 2021، حيث بلغ حجم التجارة البينية بينهما نحو 19.9 مليار دولار؛ في حين أن إثيوبيا، تعتبر الصين بمنزلة المُورّد الأساسي لها، حيث استحوذت على نحو 18 % من الواردات الإثيوبية، بواقع 2.2 مليار دولار، في عام 2022. هذا، فضلًا عن أن 400 مشروع بناء وتصنيع صيني يوجد حاليًا في إثيوبيا، بقيمة تزيد عن 4 مليارات دولار.
رابعًا: محاولة عدم خلق تناقضات مع الشركاء؛ فالصين تحرص، في ما يبدو، على تجنب خلق تناقضات بين أجندتها السياسية في السودان، وبين أجندات شركائها الأقرب المتمثلين في روسيا ودول الخايج العربية. ومن ثم، يبدو أن أقصى ما قد تُقْدِم عليه بكين، هو دعم عمليات الوساطة التي قد تقوم بها أطراف غير غربية، كالاتحاد الأفريقي أو الأمم المتحدة أو دول الخليج، في ما يُعرف بـ”دبلوماسية المقعد الخلفي”، التي تُميز مواقف الصين في مثل هذه الظروف.
ورغم أن الصين تتجنب استفزاز الولايات المتحدة الأمريكية، في الملف السوداني، وملفات منطقة القرن الأفريقي بوجه عام؛ إلا أنها يمكن أن تقوم بمحاولة الاستفادة من عدم الاستقرار في العلاقات بين الولايات المتحدة ومجلس السيادة الانتقالي في السودان، ولاسيما منذ القرارات التي أعلن عنها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر 2021؛ حيث جاء الموقف الأمريكي رافضًا هذه القرارات تمامًا.
تحوط دائم
في هذا السياق، يُمكن القول بأن سياسة “التحوط الدائم”، التي تتبعها الصين في أزمات متعددة، يُشير إلى تجنب الصين دعم طرف على حساب طرف آخر، في الأزمة السودانية؛ مع استمرارها في إظهار الحياد العلني، إلى حين تكشف الوقائع الميدانية عن ظهور طرف متغلب في الصراع. يؤكد هذا، أن الأحداث الجارية في السودان، لا تشكل سوى حد أدنى من المخاطر السياسية على المشروعات الصينية هناك؛ إلا أن مواصلة الصراع قد يكون لها تأثير بشكل أكبر على قطاع النفط، الذي تستثمر فيه الصين بشكل كبير.
لذلك، سيكون هناك مساعٍ صينية للحفاظ على مصالحها في السودان، بحكم التواجد السياسي والاستراتيجي المتزايد للصين، خاصة في منطقة القرن الأفريقي، ولاسيما بعد بناء أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي، وفي إطار استراتيجية “الحزام والطريق” التي تقضي بتعزيز تواجدها عند مداخل البحر الأحمر، خاصة عند السواحل السودانية.