رؤى

تأثير إشكالية “الاجتزاء”.. على مفهوم “السُنَّة”

ورد لفظ “سُنَّة” في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة، إضافة إلى ورود كل من: “سنتنا” مرة واحدة، و”سنن” مرتان، و”مسنون” مرات ثلاث.. ولعل أول ما يطالعنا عبر هذه الآيات البينات، هو التمايز بين السنة الإلهية، وبين سنة الرسل و/أو الأولين.

ولعل ذلك ما يتبدى بوضوح عبر آيات التنزيل الحكيم، كما في قوله سبحانه وتعالى: “سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا” [الإسراء: 77].. وكما في قوله تعالى: “مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا” [الأحزاب: 38].. وكما في قوله سبحانه: “وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نفورا • استكبارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّءِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّءُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا” [فاطر: 42 ـ 43].

وقد وصلنا في حديثنا السابق، حول “علاقة مفهوم السُنَّة.. بالوحي والنطق القرآني”، إلى أن النبي (ص)، وإن كان “بشرًا” مثل باقي البشر، إلا أنه يتميز عنهم بـ”الْوَحْيِ”.. فمن حيث كونه (ص) بشرًا، فقد قال سبحانه: “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ” [الشورى: 51].. ومن حيث كونه (ص) نبيًا، فقد قال تعالى: “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا” [النساء: 163].

فكأن المسألة هنا، تبدو في صورة: أن محمدًا (عليه الصلاة والسلام) هو بشرٌ، ولكنه يتميز عن باقي البشر بما أوحي إليه (الكتاب الكريم) من الله سبحانه وتعالى، وبإذنه، تمامًا مثلما أوحى الله إلى من سبقه من النبيين.

السنة إذن وبكلمة هي “النهج”؛ وبالتالي فالسنة “المحمدية” هي نهج الرسول عليه الصلاة والسلام في تبيان أحكام الله عز وجل كما جاءت في كتابه العزيز. وهو (أي: محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والسلام) في نهجه هذا، كان وما يزال، وسوف يظل، لنا فيه “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”.. وذلك كما في قوله جل جلاله: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” [الأحزاب: 21].

بيد أن الأمر الجدير بالانتباه هنا، أن “السنة” قد علقت بالأذهان ليس بكونها “نهجًا” انتهجه الرسول (ص) ـ من حيث كونه “رسولًا” ـ في تبيان وتوضيح أحكام الله عز وجل كما جاءت في كتابه الكريم، فاستحق ـ بهذا النهج ـ أن يكون لنا فيه (لاحظ دلالة حرف “فِي” كما وردت في سياق الآية)، “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”، هذا لمن كان “يَرْجُو اللَّهَ” و”الْيَوْمَ الْآخِرَ”، و”ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا”.. لكنها (أي: السنة) قد علقت بالأذهان:

أولًا، بكون “السنة” تتضمن أفعال وأقوال وتقارير الرسول (ص) معًا، وذلك اعتمادًا على قوله سبحانه: “وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا” [الحشر: 7].. وقوله تعالى: “قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ” [الأنبياء: 45].

ثانياً، بكون “السنة”، هي من “الوحي”، وذلك اعتمادًا على قوله عز وجل: “وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” [النجم: 3 ـ 4].

هذان المعنيان لـ”السنة”، لم ينتشرا وينالا حظهما من الذيوع حتى أصبحا عالقان بالأذهان، أذهان بعض محاولي التفسير وتأويل النصوص من المحدثين، إلا كـ”نتيجة” للعديد من أقوال ممن سلف من “المجتهدين”.

ولكثرة هذه الأقوال، سنكتفي بالإشارة إلى أمثلة من نصوص المتبوعين، وليس التابعين..

فالشاطبي مثلا يشير إلى أن: “الحديث إما وحي من الله صرف، وإما اجتهاد من الرسول (صلى الله عليه وسلم) مختبر بوحي صحيح…” (الموافقات للشاطبي: 4/21، 29).. وابن حزم أيضا، يكتب مؤكدًا: “ووجدناه عز وجل يقول فيه (أي: في كتابه الكريم) واصفا رسول الله: “وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى”، ما فصح لنا بذلك أن الوحي من الله عز وجل إلى رسوله ينقسم على قسمين: أحدهما، وحي متلو مؤلف تأليفًا معجز النظام، وهو القرآن. والثاني، وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز ولا متلو، وهو الخبر الوارد عن رسول الله” (الإحكام لابن حزم: 1/108).. والغزالي مثالا أخيرا، يقول: “ولكن بعض الوحي يتلى فيسمى كتابًا، وبعضه لا يتلى وهو السنة” (البحر المحيط للذركشي: مخطوطة مكتبة تيمور بالقاهرة، برقم 101، أصول الفقه، ج1، ورقة 97).

ولعل أول ما يمكن ملاحظته على هذا الإطار، بما يتضمنه من معان ودلالات بعينها لـ”مفهوم السنة”، أن هذه الدلالات وتلك المعاني قد رُتبت على “اجتزاء” بعض من الآيات الكريمات من السياق العام الذي وردت فيه.

إشكالية الاجتزاء

ولعل ما يؤيد ذلك، أن قوله سبحانه وتعالى: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ”، فقد ورد بنفس الكلمات في موضعين مختلفين في كتاب الله الكريم (ولا نقول: “تكرر”، إذ ليس في القرآن الكريم أي تكرار).

ومما يضيف دلالة إلى هذه الدلالة، أن قوله سبحانه وتعالى قد جاء كمقدمة تليها نتيجتان تحذران من الشرك بالله عز وجل، وذلك بعد التأكيد “عبر مقدمة الآية” على أن النبي (ص) “بَشَرٌ”، وأنه “يُوحَى” إليه، وأن الله عز وجل “إِلَهٌ وَاحِدٌ”.. يقول سبحانه: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً” [الكهف: 110].. ويقول تعالى: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ” [فصلت: 6].

والآن.. لننظر إلى قوله سبحانه وتعالى: “مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [الحشر: 7].. هنا، ينبغي أن نلاحظ أن “اجتزاء” ألفاظ من الآية، يمكن أن يُغير من المعنى الذي يُشير إليه السياق العام للآية.. إذ، إن “اجتزاء” قوله سبحانه: “وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا” ، لن يؤدي إلا إلى فهم أن المراد من الآية “أحاديث الرسول” (ص)، وهو أمر غير صحيح..

فالآية، بكامل سياقها، تشير إلى ما أفاء الله تعالى به على رسوله (ص) بعد استيلاء المسلمون على مستعمرات يهود خيبر، وإلى كيفية تقسيم هذا “الفيء” (الغنائم”)، وضرورة أن يلتزم المسلمون بهذا التقسيم، ولا علاقة لهذه الآية الكريمة بأحاديث الرسول (ص).. ويؤكد هذا أن فعل “آتَاكُمْ” جاء بمعنى “أعطاكم”، ولا يعني أقواله (ص) بصورة من الصور. لذلك يكون معنى “وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ”، أي ما نهاكم عن آخذه “فَانْتَهُوا”.

في هذا السياق، يمكننا الاطمئنان إلى نقطة أساسية مفادها: إن السنة (المحمدية) هي “النهج”، نهج الرسول (ص) في تبيان أحكام الله عز وجل كما جاءت في كتابه الكريم. والرسول، في نهجه هذا، كان، وما يزال، وسوف يظل، لنا فيه “أسوة حسنة”.. وهي، على هذا الوجه، ليست من “الْوَحْيِ”، بل هي تمثل ـ إن شئنا الدقة ـ “وجه الإسلام العملي”. وبالتالي، لا يمكن أن تنفصل (أو: تتم محاولة فصلها) عن كتاب الله الكريم، بحال من الأحوال.

ذلك أن “الكتاب”، بما يتضمنه من أحكام الله سبحانه وتعالى، قد جاء في كثير من المواضع، والمواضيع، “عامًا ومجملًا”، ولذا جاءت السنة كـ”نهج”، أي: جاءت “الأسوة المحمدية الحسنة” بمثابة الشرح والتفصيل لهذه النصوص العامة والمُجملة، وبصورة عملية (الصلاة، أحد الأمثلة؛ وزكاة الفطر مثال آخر).

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock