ليس من قبيل المصادفة أن تتسابق القوى الكبرى نحو القارة الأفريقية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والصين، إضافة إلى الهند وتركيا وإيران وغيرها؛ فهي جميعها تحاول النفاذ إلى ثروات هذه القارة. رغم ذلك التنافس والتوغل من جانب الدول والكيانات الخارجية، إلا أن أفريقيا بمواردها وثرواتها الغنية بها، لازالت بِكرًا للاستثمارات الجديدة. ولعل الموارد المتوافرة فيها تمثل المفتاح الرئيس لأهم الفرص الاستثمارية المتاحة بالقارة.
وتشير الدراسات الاقتصادية إلى أن قارة أفريقيا سوف تشهد طفرة تنموية، في ظل التوجه الدولي لاستثمار مواردها الطبيعية؛ حيث تؤكد هذه الدراسات أن عوائد الاستثمار في هذه الموارد عمومًا، وفي الزراعة بشكل خاص، تكون أعلى ربحية من الاستثمار في أي قطاع آخر.
ومن ثُم.. ففي ظل التدافع العالمي، والخطط التي تستهدف الوصول إلى أسواق أفريقيا، ومواردها المتنوعة؛ في ظل تواضع الاستثمارات العربية في القارة الأفريقية، مقارنة بأماكن أخرى من العالم – تبدو أهمية أن تأخذ الاستثمارات العربية في أفريقيا المكانة اللائقة بها، بما يحقق شراكة عربية أفريقية ذات نفع متبادل، تساهم فيها الحكومات جنبًا إلى جنب مع المؤسسات الخاصة.
فإذا كانت الدول الأفريقية بحاجة إلى تنمية اقتصاداتها، فإن الدول العربية بحاجة أيضا إلى مثل ذلك، في إطار الأولويات العربية في تحقيق الأمن الغذائي العربي، وتدعيم الصناعات، وفتح أسواق جديدة للمنتجات العربية.
أفريقيا.. قارة الموارد
النموذج الأكثر وضوحًا على قولنا الأخير، هو مقولة “هيا بنا إلى أفريقيا، هناك أسواق المستقبل”؛ إنها المقولة التي صرّح بها غيرد مولر وزير التنمية الألماني، قبل سنوات ثلاث موجها حديثه إلى الفاعلين في الاقتصاد الألماني، من أجل أن تنشط الشركات الألمانية في أفريقيا؛ هذا رغم أن الشهور الخمسة الأولى من ذلك العام 2019، كانت قد شهدت ارتفاعًا في حجم التجارة الألمانية مع الدول الأفريقية بنسبة 12.7 %، بحسب غرفة التجارة والصناعة الألمانية، مقارنة مع الفترة نفسها من العام الذي سبقه.
والواقع أن النموذج الألماني في التوجه إلى القارة الأفريقية، إنما يؤكد على مدى الاهتمام بموارد القارة، من جانب قوى اقتصادية كبرى بحجم ألمانيا. وتكفي الإشارة هنا إلى أن أفريقيا هي أحد أكبر الاحتياطيات في العديد من المعادن، مما يجعلها محط أنظار المستثمرين والمنقبين على مستوى العالم.
على سبيل المثال، فإن أفريقيا تحتوي على أكبر احتياطي في العالم من خام البوكسيت، العمود الرئيس في صناعة الألمنيوم حول العالم، والذي يدخل في صناعة هياكل الطائرات والصناعات الكيميائية.
أيضا فإن القارة الأفريقية تُعدُّ من أكبر القارات التي تضم دولًا منتجة للنفط، حيث يوجد بها 21 دولة منتجة للنفط، مقارنة بآسيا وأوروبا التي تضم كل منها 19 دولة، وأمريكا الشمالية والجنوبية التي تضم معا 10 دول.
إلا أن الأهم من هذه الموارد الهائلة، هي الأراضي الزراعية؛ إذ رغم أزمة التصحر التي تواجه العالم، تتميز القارة الأفريقية بوفرة الأراضي الصالحة للزراعة فيها، فضلا عن انخفاض تكلفة رأس المال في هذا الشأن. فالأراضي الصالحة للزراعة في أفريقيا تصل إلى حوالي 200 مليون فدان؛ بل وتعتبر الزراعة أحد أهم الأنشطة الاقتصادية في القارة. فقد ساعد تنوع المناخ بها، وكثرة الأنهار فيها، على انتشار الزراعة بصورة كبيرة؛ حيث يعمل بها “ثلثا” سكان القارة، الذين يصل عددهم إلى حوالي 1.2 مليار نسمة (احصائيات 2021).
أفريقيا.. الأمن الغذائي
يتصل مفهوم “الأمن الغذائي” بحلقتي “الفقر” و”الصحة”؛ لذا، يصف هذا المفهوم عددًا من الظواهر المتصلة، فهو لا يعني توافر الغذاء، فقط؛ بل، أيضًا، إمكانية الحصول عليه واستخدامه بشكل آمن. ووفق حسابات البنك الدولي، عام 2021، فإن قدرة الاستثمارات الزراعية على الحد من الفقر تمثل ضعف قدرة الاستثمارات في أي قطاع آخر.
وهنا، تنبغي الإشارة إلى أن أفريقيا عاشت على مدى العقدين الماضيين في تقدم ملحوظ للتنمية؛ إذ، ارتفعت مستويات الدخل، وانخفضت معدلات الفقر، وتحسنت بشكل كبير خدمات الصحة والتعليم. وبحسب تقرير المنظمة العالمية للأغذية والزراعة، عام 2019، فقد تراجعت معدلات نقص التغذية من 24 % إلى 15 % في الأقاليم النامية، مثل الدول الأفريقية، في حين أن معدلات الفقر تراجعت من 47 % إلى 24 %. ولعل هذا يًعطي مؤشرًا هامًا على مدى الالتزام الأفريقي بمحاولة تفعيل الشعار الذي خرج به مؤتمر كمبالا (أبريل 2004)، وهو “ضمان الأمن الغذائي والتغذية في أفريقيا بحلول 2020”.
بل، إن نتائج الدراسة التي أجرتها “نيباد” عام 2019، وإن كانت قد أكدت على أن الاستثمار في البيئة الزراعية، خلال العقد “الثالث” من القرن الحالي، هو العمود الفقري لتحسين مؤشرات الأداء الاقتصادي؛ فإنها -في الوقت نفسه- قد أشارت إلى أنه من المتوقع زيادة الطلب على الغذاء في أفريقيا، ومنها بشكل يُمكّن للمزارعين الحصول على دخل يفوق أربعة مليارات من الدولارات من إجمالي الصادرات بحلول عام 2030. ذلك يعني أن الاستثمار في المجال الزراعي، يُعدُّ من أفضل الخيارات التي يمكن أن تقدمها أفريقيا للمستثمرين، على الأقل من منظور الإسهام في تحقيق النمو الاقتصادي والأمن الغذائي في القارة.
أفريقيا.. آفاق الاستثمار
الغريب أن الصورة الذهنية السائدة عن الاستثمار في أفريقيا، لدى المستثمرين العرب، أنه يُعد نوعًا من المغامرة غير مأمونة العواقب؛ إلا أن ذلك غير صحيح بدليل تدافع كبار المستثمرين والقوى الكبرى في العالم بقوة، نحو السوق الأفريقية الواعدة. فأفريقيا اليوم تختلف عن ذي قبل؛ ومنذ بداية الألفية الثالثة شهدت الأوضاع التنموية في الكثير من دول أفريقيا تحسنًا ملحوظًا، بسبب الاصلاحات الإدارية والقانونية التي أقرتها هذه الدول لتعزيز مناخ الاستثمار.
ولأن القارة الأفريقية هي امتداد جغرافي للعالم العربي، ولأنها تضم نحو “ثلثي” العرب في الجزء الشمالي منها، ولأن سكانها يتجاوزون المليار نسمة؛ لذا فهي تمثل الثقل الاستهلاكي “السابع” في العالم. ومن ثم فهذه القارة تمتلك القدرة ليس فقط على تحقيق الأمن الغذائي في الإطار الأفريقي؛ ولكن أيضا لديها المقدرة على تحقيق الأمن الغذائي العربي من خلال الاستثمارات التكاملية بين الدول العربية والدول الأفريقية في قطاعات الإنتاج الزراعي، بما فيها توفير الموارد المائية الضرورية والبنية التحتية المصاحبة لهذا الإنتاج.
ويكفي أن نشير هنا إلى ما تضمّنه تقرير صدر خلال عام 2019، عن مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، عن فرص الاستثمار الواعد في أفريقيا.. حيث يشير التقرير إلى أن دول حوض النيل بالنسبة إلى المستثمر في مجال الزراعة، تمثل فرصة واعدة لتحقيق نجاحات كبيرة، خاصة في حال زراعة المحاصيل الاستراتيجية، مثل القمح والذرة والأرز والحبوب، من منظور تغطية الفجوة الموجودة بين العرض والطلب في كثير من الأسواق العربية.
ويؤكد التقرير ذلك عبر بعض الأمثلة، من بينها “السودان”، الذي تحاول بعض القوى الدولية والإقليمية، حاليًا، جعله “دولة فاشلة”، يعتبر من أكبر ثلاث بلدان في أفريقيا من حيث المساحة وتوافر المياه والأراضي القابلة للزراعة. من هذه الأمثلة أيضًا، أوغندا التي تتمتع بالعديد من الموارد الطبيعية، حيث تمتلك أكثر من 18 مليون هكتار (43 مليون فدان)، منها 40 % غير مستغلة. هذا بالإضافة إلى تشاد التي تمتلك 39 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة كثيفة الإنتاج، فضلا عن وفرة المياه العذبة من البحيرات والأمطار، حيث تتوافر لديها موارد مائية هائلة تتمثل في بحيرة تشاد ونهري شاري ولوغون وروافدهما. كذلك زامبيا التي ترتبط بخطوط سكك حديدية مع تنزانيا وموزمبيق وزيمبابوي، وتمتلك 102 مليون فدان، لم تزرع سوى 14 % منها.
في هذا السياق، فإن ما يتوافر لدى الدول الأفريقية من مميزات، خاصة بالاستثمار عمومًا، والاستثمار الزراعي بشكل خاص، تجعل من السهولة تحويل “بعض” الدول الأفريقية، ذات الميزات النسبية، إلى سلة غذاء مربحة ومريحة لعدد من الساحات العربية؛ ناهيك عن المساهمة في تحقيق الأمن الغذائي العربي، والأفريقي أيضًا.
الدليل على ذلك، ليس فقط توافر المساحات الواسعة من الأراضي الزراعية والمياه؛ ولكن أيضًا إمكانية الاستفادة من حوافز الاستثمار التي تقدمها الدول الأفريقية، من تملك الأراضي الزراعية بنظام “حق الانتفاع” (لمدة 99 عامًا)؛ فضلًا عن الإعفاءات الضريبية الكاملة وحرية انتقال رءوس الأموال من وإلى الدول الأفريقية.
أما ما يتعلق بإمكانية حماية هذه الاستثمارات، فإضافة إلى الاتفاقيات التي ترتبط بها الدول العربية ونظيراتها الأفريقية، لضمان حقوق المستثمر؛ فإن المؤشر الواضح أن الملكيات الزراعية الكبيرة هي التي توفر الحماية لنفسها، لأنها ببساطة تخدم المجتمعات الأفريقية المحيطة بها. ولذلك، تصبح الدول الأفريقية نفسها هي أول من يحميها لما توفره من احتياجات أساسية لهذه الدول.