رؤى

الأستاذ “العزبي”.. و”عالمه العجيب”! (2-5)

أرسى الأستاذ عباس محمود العقاد -في كتاباته  خصوصا سلسلة العبقريات- منهجا خاصا عند قراءة شخصيات تلك الكوكبة من الأعلام الذين كتب عنهم، ذلك المنهج أسماه “مفتاح الشخصية”.

وعلى نفس الدرب أسير في قراءة شخصية الأستاذ محمد العزبي من خلال كتابه “الصحافة والحكم”.

ففي الصفحة رقم ١٥٩ أجد ضالتي، فهو يقول بقلمه الرشيق تلك الكلمات: “…لا أريد أن أموت مهزوما وأبدو مُتشائما، فلابد أن تطل علينا طاقة نور ولو في آخر النفق”.

كلمات ملؤها التفاؤل والعناد مع تحديات الحياة، كلمات تحس معها أن قائلها هو شاب في العشرين من عمره، غير أنه يُذكّرني بالفيلسوف البريطاني العظيم وعالم الرياضيات الكبير “برتراند راسل”.

كان الرجل قد جاوز التسعين، غير أنه تمسك بالحياة الى آخر لحظة، فلم يتوقف قلبه عن الحب، ولم يسكت قلمه عن النقد، ولم يتوقف صوته عن الهتاف في ميادين لندن ضد العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦، ومساندة الجزائر في حربها التحررية ضد فرنسا في الخمسينيات من القرن الماضي، ولا الحرب الأمريكية المجنونة ضد شعب فقير وبطل هو شعب فيتنام، شعب العم “هوشي منة”.

هكذا أرى في الأستاذ العزبي -أطال الله في عمره- مثل ما كنت أرى في رفيقه الذي يسبقه في العمر بنحو عشرة أعوام، أقصد الأستاذ محمد حسنين هيكل رحمه الله.

مفتاح التفاؤل والعناد والمقاومة والعطاء وجدته أيضا في الصفحة رقم ٢٢٩ من الكتاب، إذ يقول: “ووصل القطار الى محطة سيدي جابر ولم أنزل.. مازالت أمامي محطة، ليست بعيدة عَلى أي حال”.

ولكي نفهم المعنى الذي يقصده الأستاذ العزبي ينبغي أن نعود الى التفسير الذي يُقدّمه في الصفحة رقم ٢٢٧ من كتابه، فالرحلة من القاهرة الى الإسكندرية، هي رمز لرحلة العمر، فهناك غالبية الناس تنزل في محطة سيدي جابر، غير أن المحطة الأخيرة هي محطة مصر، وهي المحطة المعروفة والمشهورة بهذا الاسم رغم أنها آخر محطات القطار القادم من القاهرة.

المعني هو رحلة العمر والحياة والموت والأجل المحتوم، يقول الأستاذ العزبي بالنص: “قبل أيام ركبت القطار ووصلت بحمد الله الى محطة سيدي جابر، وما زلت عالقا هناك.. هل أنزل والسلام عليكم ورحمة الله، أم أجمع أوراقي التي استعنت بها على طول الطريق واستعد بحقيبتي للنزول في المحطة الأخيرة، وتسمى في الإسكندرية بمحطة مصر، وفي كل الأحوال لا يستغرق القطار حتى موعد النزول الأخير سوى دقائق معدودات”!

لا تحسبن تلك الكلمات تحمل تشاؤما، ولكنها قمة في التفاؤل، فقد سبقه الأستاذ نجيب محفوظ الذي يقول: “أحببت العمل وأحببت الحياة وأحببت الموت”، وأوضح ما كان يقصده للكاتب والأديب محمد سلماوي بعد أن تجاوز بالعمر عتبة التسعين، قال وهو المُعتاد عَلى السفر الى الإسكندرية عند كل صيف مع صديق عمره الأستاذ توفيق الحكيم قال: “أشعر الآن بما كنت أشعر به كلما توقف القطار في محطة سيدي جابر، فينزل معظم الرُكاب، أي يموتون، ولا يبقى سوى من ينتظر دوره، وأنا واحد منهم”!

فلنُقارن بين هذه المدرسة في التفاؤل والإيمان العميق عند الأستاذ العزبي وصديقه الأستاذ نجيب محفوظ، وتلك المدرسة التي يُعبِر عنها واحد من عمالقة الصحافة والثقافة والشعر، أقصد الأستاذ كامل الشناوي، فيقول احتفاءً  بعيد ميلاده، تلك الأبيات: “عُدت يا يوم مولدي، عُدت يأيها الشقي.. الصبا ضاع من يدي.. وغزا الشيب مفرقي.. ليت يا يوم مولدي كنت يوما بلا غدٍ”!

عند الأستاذ العزبي نجد التفاؤل بمعنى الكلمة، فالأستاذ كامل الشناوي أضاع حياته في السهر والحُب بغير طائل ولا فائدة، فقصيدته لا تكذبي هي قمة معاناته في حب الفنانة الصغيرة، بينما أَعْطى الأستاذ العزبي حياته لحياة عائلية مُستقرة بحمد الله، فأنتج من الكتب ما يُعد مرجعا في الثقافة والصحافة والحياة، بينما ترك الأستاذ كامل الشناوي ذِكرى  آلاف السهرات والليالي الضاحكة الباسمة، فذهبت أدراج الرياح، صارت قبضة من هواء، لا يذكرها سوى بعض تلاميذه ومريديه عَلى نحو ما كتب الأستاذ يوسف الشريف عن الأستاذ كامل في كتابه البديع “كامل الشناوي، آخر صعاليك العصر”.

في كتابه الجميل “الصحافة ونظام الحكم”، وحيث تقلب الصفحات وتتقلب معها، تعثر على كنوز من التفاؤل وعطور من المحبة والحب في الحياة، لا يقدر عليها سوى الأستاذ العزبي  فالتفاؤل عنده مطلوب، وهل يعيش الإنسان إلا بالأمل؟

يُفتش الأستاذ في كتب التراث، فيعثر على تلك الأبيات البديعة للشاعر المُبدع بهاء الدين زهير الذي وُلد في مكة ونشأ  في قوص بصعيد مصر وأصبح من أقرب كُتّاب الملك الصالح أيوب قال: “ونعم كبرت وإنما تلك الشمائل باقية…ويفوح من عطفي أنفاس الشباب كما هي… ويميل بي نحو الصبا قلبٌ رقيق الحاشية…فيه من الطرب القديم بقية من زاوية”

“التفاؤل  وعشق الحياة والعطاء بغير توقف” هو مدخلنا الى عالم  وفهم شخصية الأستاذ  محمد العزبي.

أما ما هي العلاقة بينه وبين مدرسة الأستاذ العقاد الصعبة المستحيلة، ومدرسة “السهل الممتنع” التي هو أحد نظارها ومؤسسيها، فموعدنا بإذن الله ما هو قادم من قراءة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock