إذا كانت للنزاعات المُسلحة، بمختلف مواقعها الجغرافية، انعكاسات وارتدادات إقليمية من خلال تأثيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المباشرة وغير المباشرة، فإنها في حال السودان تنطوي على عواقب أكثر منها تأثيرات؛ ولعل الأمثلة على وجود ما يترتب على الصراع “السوداني – السوداني” حاضرة، من التجارب القريبة، حتى أنها تخطت مسارات محددة يؤثر من خلالها الصراع في دول الجوار الإقليمي.
وبحكم تعرض السودان الطويل للحرب الأهلية، في جنوبه وغربه، فإنه في الإمكان افتراض تأثيرات فعلية للصراع الحالي، حتى لو جاءت هذه المرة مُبرأة من الغموض الذي اكتنف علاقات السودان مع دول الجوار، خلال نزاعاته السابقة. فقد أضاف الصراع السوداني بُعدًا جديدًا للأزمة الاقتصادية والسياسية والأمنية، وأصبح مُكملًا لدائرة الصراع في منطقة القرن الأفريقي، وليس بعيدًا عن النزاع في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، الذي امتد بدوره من دولة مالي إلى دول الجوار، خصوصًا النيجر وبوركينا فاسو.
تداخلات قبلية
هذا الصراع، في السودان، سيُفرز صياغة “عقد اجتماعي جديد” تزداد فيه النزاعات الإثنية، وسيستفيد بعض الإثنيات في دول الجوار، ذات التداخلات العرقية مع مناطق التماس على حدود السودان، من هذا الوضع؛ بما يُمكن أن يُشكل تهديدًا كبيرًا لاستقرار دول الجوار. فالقبائل ذات الأصول الأفريقية في غرب السودان، خاصة في المناطق الملتهبة مثل دارفور، تجد فرصتها في الالتحام بقبائل المنطقة، مستفيدة من الهشاشة الأمنية المتزايدة. وكذلك ستفعل القبائل في شرق السودان، المتداخلة مع القبائل الإثيوبية، ما سيجعل من مناطق الصراع المتجددة، في منطقة الفشقة وغيرها، بيئة خصبة لِتَشَكّل مجتمع بإمكانه فرض واقع جديد على السودان.
هذا التأثير يعتمد على عدة عوامل: الأول، مدى استمرارية الصراع السوداني، وتأثير حجم الحدود الطويلة الممتدة في غرب وشرق البلاد؛ والثاني، نتيجة الصراع المسلح الحالي، سواء بانتهائه أم باستمرار تداعياته وتوسع رقعته، التي ربما تمتد إلى إقليم دارفور غربًا وإثيوبيا شرقًا ودولة جنوب السودان جنوبًا. وفي هذه الحال، تتوزع تداعيات الصراع بشقها الأمني على ثلاثة أبعاد رئيسة: الأول، مدى قدرة الجيش السوداني على حسم الفوضى التي قد تنشأ في الحدود الملتهبة؛ والثاني، يتمثل في حالات اللجوء والحركة بين الحدود وبروز تعقيدات أخرى، مثل انتشار الجرائم والإرهاب وتهريب البشر وتجارة الأسلحة؛ أما الثالث، فيرتبط بمدى اعتماد المنظومة السياسية السودانية على المحاور الإقليمية في حل مشكلاتها؛ إذ، إن كل الحلول للأزمات السابقة أثناء الحرب الأهلية في جنوب السودان، كانت بالارتكان إلى الحل السهل، أي إجراء استفتاء على الانفصال، ثم تنفيذه في حيز زمني ضيق.
وهكذا، فإن النقطة الجوهرية، هي أن الصراع المسلح الحالي يمكن أن تمتد شرارته إلى دول الجوار الإقليمي؛ ويمكن أيضا أن ترتد هذه الآثار إلى السودان مرة أخرى، بل قد تتطور بمرور الوقت وتؤدي إلى استجابات سياسية لها آثار طويلة الأمد. ولا تتمثل خطورة تلك التداعيات في نشوب صراع مسلح في دول الجوار فحسب، وإنما تتجلى كذلك في العبء الاقتصادي الذي يتحمله الإقليم بأكمله بسبب اندلاع هذا الصراع.
تأثيرات سلبية
اللافت، إضافة إلى العبء الاقتصادي، أن المخاوف من تداعيات الصراع العسكري في السودان، تُثير تساؤلات متعددة حول التأثيرات السلبية التي يمكن أن تطال دول الجوار الجغرافي للبلاد، جراء هذا الصراع؛ بل، ومدى تأثير الصراع على هذه الدول، خاصة وأن بعضها، مثل ليبيا، منشغل منذ سنوات بإيجاد مخرج لأزماته الداخلية؛ إذ إن هذه الدول، وتحديدًا ليبيا وتشاد، قد تضررت من الحرب التي دارت في إقليم دارفور، عام 2003، حيث برزت حينذاك، حركات تمرد سودانية، واتخذت من الحدود السودانية معها، مواقع لشن هجمات ضد النظام في الخرطوم.
وهنا، نكتفي بملاحظتين أساسيتين هما:
إمكانية أن يتنامي الصراع القبلي على حدود ليبيا الجنوبية؛ فمع وجود عناصر من المرتزقة السودانيين (الجنجويد) على جانبي الحدود بين دارفور وجنوب ليبيا، واحتمال انضمام بعض قوات حميدتي إليهم، فإن ذلك سوف يفتح الباب واسعا لتنامي الصراع القبلي على حدود ليبيا الجنوبية، خاصة الحدود الليبية التشادية، التي تبلغ 382 كيلو مترا، حيث التناقض القبلي بين المكون العربي والمكون الأفريقي.
إذ لن يكون سهلا على مكون “الزغاوة” التسليم للمكون العربي “الجنجويد”؛ بل وقد يكون تحالف قبيلة “القرعان” مع عرب تشاد، إيذانا بفتح الجبهة الليبية التشادية على مصراعيها، وسيكون تأثيرها الأمني والعسكري والاقتصادي سلبيا في منطقة الحدود الجنوبية الليبية.
من جهة أخرى، كيف أن الجنوب الليبي هو الخيار الممكن، بالنسبة إلى بعض المجموعات من قوات الدعم السريع، في حال انسحابها من الخرطوم إلى دارفور؛ ويعود ذلك إلى أن هذه المجموعات، في حال كهذه، سوف تضطر إلى التصادم الحتمي مع الحركات المسلحة الدارفورية، المتمثلة في: تحرير السودان، تحرير السودان – المجلس الانتقالي، العدل والمساواة، تجمع قوى تحرير السودان، والتحالف السوداني؛ وهي الحركات التي كانت قد وقعت مع الحكومة السودانية اتفاق سلام، في 3 أكتوبر 2020؛ وفي الوقت نفسه، هي على النقيض من قوات الدعم السريع أو الجنجويد.
تمدد الإرهاب
فضلا عن احتمالات التصادم القبلي، على جانبي الحدود بين السودان ودول جواره الجغرافي، خصوصا ليبيا وتشاد، يأتي الاحتمال الخاص بتمدد نشاط الجماعات الإرهابية؛ حيث يمكن للعناصر المتطرفة والإرهابية، أن تسعى إلى استغلال الاضطرابات الأمنية الكبيرة في السودان، والوضع الأمني الهش في الجنوب الليبي، وعلى الحدود التشادية، من أجل تنفيذ عمليات تستهدف عدة دول في الإقليم.
ورغم أن السنوات الأخيرة، كانت قد شهدت تراجعًا بصورة ما في النشاطات الإرهابية في السودان؛ إلا أن الوضع الحالي، الذي قد يُنذر بحرب أهلية، يمكن أن يوجِد ظروفًا تُعيد السودان ليُشكل مركزًا لانطلاق تهديدات إرهابية عبر الحدود، خاصة حدوده مع تشاد وليبيا.
أضف إلى ذلك، أنه في حال تواصلت الحرب بين طرفي النزاع، كما هو متوقع عبر دلالات إخفاق الوساطات الدولية، وتعليق مباحثات جدة برعاية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن الأوضاع المعيشية للشعب السوداني سوف تتدهور، ما سيتسبب في موجة هجرة ونزوح كبيرة، تستهدف دول الجوار، تلك التي بدأت مؤشراتها تلوح بوضوح؛ وهنا سوف تتحمل منطقة التلاقي الحدودي بين مصر وليبيا وتشاد والسودان، العبء الأكبر، نظرًا إلى الكم الهائل من موجات النزوح التي نراها حاليا. ومع موجات الهجرة والنزوح هذه، يتمدد نشاط الجماعات الإرهابية، بانتقالها عبر الحدود السودانية مع دول الجوار.
تصاعد الأزمات
في هذا السياق، يُمكن القول بأن الصراع العسكري الذي تفجّر في السودان، الذي يجاور عددًا من الدول العربية والأفريقية، سوف يؤدي إلى عدد من التداعيات والتأثيرات السلبية على هذه الدول؛ سواء عبر اتخاذ مقاتلي المجموعات المتمردة أراضي دول الجوار قواعد خلفية لتعزيز صفوفهم، أو من خلال تدفق أفواج النازحين الفارين من نيران الاشتباكات، ومعهم المتطرفون والعناصر الإرهابية باتجاه هذه الدول.
وهكذا، تُنذر الاشتباكات بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، بتداعيات خطيرة على الحالة السودانية، وكذلك على الاستقرار الإقليمي، لاسيما علاقات السودان مع دول الجوار، وحالة الاستقرار السياسي والأمني في القرن الأفريقي ومنطقة الساحل وشمال أفريقيا. وفي الوقت نفسه، قد تشجع الاشتباكات على تصاعد الحركات الانفصالية في دارفور، وفي شرق السودان أيضًا؛ ومن ثم، يمكن أن يتكرر سيناريو جنوب السودان، ونعيش اللحظة التي يمكن أن يصل فيها السودان إلى التفتت.