خلال الأيام القليلة الماضية، دعا السفير الأمريكي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، القادة الليبيين إلى “وضع آلية شاملة للتحكم في الإيرادات النفطية الليبية”؛ وقدم تبريرًا لتصريحاته بأن هذه الآلية “طريقة بناءة لمعاجلة التظلمات حول توزيع عائدات النفط”. ولم تقف تصريحات نورلاند عند هذا الحد، ولكنه طالب الفاعلين السياسيين الليبيين بـ”الابتعاد عن التهديد بإغلاق النفط، الذي من شأنه أن تكون له تداعيات خطيرة على الاقتصاد الليبي”.
وقد أشعلت هذه التصريحات، بخصوص النفط، فتيل أزمة بين السفير الأمريكي وبين السلطات في شرق ليبيا؛ خاصة بعد أن حذَّر هذه السلطات من “مغبة العودة لاستخدام ورقة النفط للضغط على الخصوم السياسيين في طرابلس”؛ وهي التصريحات التي اعتبرها البرلمان الليبي، والحكومة التابعة له، “تدخلًا غير مقبول في الشأن الداخلي”.
النفط والغذاء
ومن الواضح، أن تصريحات نورلاند حول النفط، هي محاولة لإعادة تسويق جديد لمبادرته القديمة، التي تدور حول “تقاسم إيرادات النفط الليبي”؛ وهي المبادرة التي ينظر إليها معظم الليبيين بنوع من الحساسية والتوجس، خاصة أنها تُشبه معادلة “النفط مقابل الغذاء”، السيئة السمعة، التي كانت قد أوصلت العراق إلى حافة الجوع، خلال الفترة التي سبقت سقوط نظام صدام حسين.
واللافت، أن تصريحات السفير الأمريكي قد واجهت انتقادات حادة، وسلسلة من البيانات الرسمية الرافضة لها، سواء من البرلمان الليبي، أو من الحكومة التابعة له في بنغازي. وفي سسلة من التغريدات، في حسابه على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، استخدم رئيس وزراء الحكومة المكلفة من البرلمان، أسامة حماد، لهجة حادة في الرد على تصريحات نورلاند، مُطالبًا إياه بـ”احترام سيادة القضاء الليبي، وعدم التدخل بالانحياز لأي طرف كان”، في إشارة إلى انحياز السفير الأمريكي إلى جانب حكومة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس.
وفي ما يبدو، تتهم الحكومة المدعومة من البرلمان الليبي، حكومة الوحدة في طرابلس، بإهدار المال العام، واستغلال عائدات النفط في شراء الولاءات بالداخل والخارج، لأجل البقاء في السلطة. وهو ما تبدى بوضوح عبر بيان حكومة “الشرق” الليبي، التي يترأسها أسامة حماد، الشهر الماضي؛ حيث أشار البيان إلى أنها “استكملت إجراءات الحجز الإدراي على إيرادات النفط، لعام 2022 وما بعده”، والتي تصل إلى ما يزيد على 130 مليار دينار ليبي، أي حوالي 27 مليار دولار أمريكي، بحسب البيان.
وتستند الحكومة المُعينة من البرلمان، في مطالبتها بالحجز الإدراي على إيرادات النفط، إلى “الإعلان الدستوري في مبدأ التوزيع العادل للثروة”؛ إذ، إنها تستحوذ على أكثر من 65 % من إنتاج ليبيا من النفط، من مناطق تحت سيطرتها في شرق ليبيا وجنوبها.
سؤال النفط
هنا، يبدو أن التساؤل الذي يطرح نفسه، ذلك الذي يدور حول: لماذا تحاول واشنطن التدخل لمراقبة عائدات وإيرادات النفط الليبي؟
تبدأ محاولة الإجابة على هذا التساؤل، من ملاحظة أن التوجه الأمريكي، كان قد ظهر نتيجة عدم القدرة على السيطرة على الأوضاع، وفشل الوساطات بين القوى السياسية الليبية، لإنهاء الأزمة التي وصلت إلى طريق مسدود.. بما يطرح عددا من الدلالات الرئيسة؛ لعل من أهمها ما يلي:
أولًا: إظهار عدم الثقة بالمؤسسات الليبية؛ خاصة تلك المعنية بإدارة إيرادات النفط، كالمصرف المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط. والملاحظ، أن هذه الأخيرة، حاولت النأي بنفسها عن الصراع المشتعل على الموارد النفطية، حيث أشار المكتب القانوني للمؤسسة، في بيان مؤخرًا، إلى أن “عملية توزيع الإيرادات النفطية ليست من اختصاص المؤسسة”؛ ومؤكدًا على أن “المؤسسة ليس لها حساب خاص لتلقي إيرادات النفط، بل تودع في حساب مصرف ليبيا الخارجي”؛ وهو ما يوضح أن المسألة ليست خاصة بكيفية إدارة الإيرادات النفطية، بقدر ما تتعلق بأهمية “تدفق النفط والغاز” الليبيين، عبر هذه المؤسسة.
ثانيًا: تجريد الدولة الليبية ومؤسساتها السيادية؛ حيث إن اقتراح السفير الأمريكي يذهب إلى ما هو أبعد من مجرد عملية “تقاسم عائدات النفط بين الليبيين”. ففي حال تطبيق الاقتراح الأمريكي، ستجرد المؤسسات السيادية من أي صلاحية مرتبطة بحرية التعامل مع الإيرادات النفطية.
وهذه الفكرة التي يقترحها السفير الأمريكي، تستهدف “تشكيل آلية بقيادة ليبية، لتأمين الشفافية في ما يتعلق بكيفية إنفاق عائدات النفط”؛ وهي فكرة ليست جديدة، فقد عرضت من قبل خلال مؤتمر برلين حول ليبيا، في يناير 2020، حيث أقر المؤتمر، بهدف إيقاف الصراعات الداخلية، تشكيل لجنة اقتصادية من الخبراء بقيادة ليبية، لكي تُشرف على “الإصلاح الاقتصادي الهيكلي”، الذي يتضمن كيفية توزيع عائدات النفط عبر آلية مشتركة.
ثالثًا: تعديل صيغة النفط مُقابل الغذاء؛ إذ، إن اقتراح نورلاند التي اُصطلح على تسميته “مستفيد”، إنما يُشكل نسخة مُعدلة من برنامج “النفط مقابل الغذاء”، سيِّئ السُمعة، الذي جرى تطبيقه في العراق، في عام 1995، والذي أصبح جزءًا من العقوبات المفروضة على نظام صدام حسين في العراق.
والواضح، أن الهدف الظاهري المُعلن من جانب الإعلام الأمريكي، والدوائر المرتبطة به، هو “حرمان الميليشيات المسلحة من موارد مالية تتمتع بها منذ سنوات”؛ إلا أنه، رغم ذلك، فإن الهدف الحقيقي يتمثل في حرمان الدولة الليبية من اتخاذ قراراتها السيادية بشأن مواردها، بصرف النظر عن الاتهامات المتبادلة بين الفرقاء الليبيين حول استغلال عائدات النفط بشكل يُمثل إهدارًا للمال العام.
خطوة خبيثة
في هذا السياق، يُمكن القول بأن تصريحات السفير الأمريكي لدى ليبيا، وإن كانت توضح انحيازًا إلى جانب طرف ليبي على حساب الأطراف الأخرى؛ إلا أنها -في الوقت نفسه- تُمثل “خطوة خبيثة” لتقسيم البلاد جغرافيًا، الشرق والغرب والجنوب، بشكل مُشابة لما كانت عليه ليبيا في ما بعد استقلالها، في عام 1951.
ومن ثم، إذا استمرت حالة الانسداد السياسي في ليبيا، وغياب أُفق واضح لعملية سياسية تؤدي إلى إنجاز الانتخابات، الرئاسية والبرلمانية، فالمتصور أن ليبيا ستتحول تدريجيًا إلى ما يُشبه معادلة “النفط مُقابل الغذاء”، وهو السيناريو المُرجح لدى الإدارة الأمريكية.