قبل نحو من نصف قرن راهنت جولدا مائير على أن الجيل الثالث من الفلسطينيين سينسى مقاومة الاحتلال، وستصبح القضية الفلسطينية بالنسبة له مجرد ذكرى.. لكن ما أثبتته الأحداث الأخيرة كان عكس ذلك تماما.. الجيل الجديد من الفلسطينيين أكد أنه الأكثر وعيا وإيمانا بالمقاومة وجدواها، فهو -عمليا- يُكذب كل دعاوى الرضوخ والاستسلام التي تتبناها سلطة أوسلو ومن لف لفها.. هذا الفعل المقاوم ليس وليد اللحظة؛ بل هو نتاج وعي متجذر وسيرورة متحققة لمسيرة نضالية ممتدة بلا انقطاع عبر نحو قرن من الزمان؛ تكتسب قدرتها على الإنجاز من عوامل ثابتة لا تعتريها بواعث الضعف وآثار الفعل المناوئ على اختلاف أساليبه وتعددها.. فكيف تخلقت هذه القوة الفاعلة وحافظت على نجاعتها في أصعب الظروف؟ هل ثمة ميزة خاصة لشعب الجبارين؟ أم أنها قوة الحق في مقابل ضعف الباطل وهوانه مهما بدا بطشه وتجبره؟ أم أن عوامل عدة تشابكت وتفاعلت على نحو ما؛ صانعة هذا المزيج المدهش الذي جعلنا تقف حائرين أمام جسارة الصمود الفلسطيني في المشهد المقاوم في جنين خلال الهجمة الإجرامية الأخيرة التي أسماها العدو الصهيوني “الحديقة والمنزل” في إشارة إلى أن بقاء كتيبة جنين وقدرتها القتالية المتزايدة في شمال الضفة الغربية؛ يشكل خطورة كبرى يجب مواجهتها على دويلة الكيان؛ إذ تشير تقارير إلى أن 132 عملية متنوعة نُفذت من جانب مقاومين في الضفة الغربية منذ بداية العام، في ما تعدّه وسائل إعلام إسرائيلية ارتفاعاً ملحوظاً في نسبة العمليات مقارنة بالعام الماضي.. ما ينذر بتحول جنين إلى “جنوب لبنان آخر” حسب تعبير معاريف.
فهل حققت هذه العملية مراميها؟ أم كان عجزها كاملا وفشلها واضحا على نحوٍ لا يمكن إنكاره، ونتائجها مخيبة للآمال ومنذرة بتغير كبير في معادلة القوى، بحسب قيادات سابقة في الجيش والاستخبارات؟ أم أنها قد حققت أهدافها ولو بشكل جزئي، وتحتاج إلى جولة أخرى قريبة.. كما تردد بعض أبواق جيس الدفاع؟
لقد مارس جيش الاحتلال -عبر عقود- كل أنواع الإرهاب بحق الشعب الفلسطيني، وكان الهدف هو كسر الإرادة وإضعاف الروح المعنوية وإغراق الشعب في هوة اليأس من جدوى المقاومة، للالتفات الكامل لصعوبة الظرف المعيشي ومحاولات ترويضه أو العمل على إيجاد السبل التي من شأنها مجابهة البطش الصهيوني، بالمزيد من التعقل والواقعية وفق نهج “ما لا يدرك كله لا يترك جُله” لكن شيئا من ذلك لم يصل إلى القلب الصلب لفكرة المقاومة التي يبدو أنها عُزلت على نحو جيد عن كل تلك المؤثرات؛ لتظهر في توقيتاتها الحاسمة في كل مرة.. قوية وملهمة وقابلة للتحقق واقعيا دون صعوبة.
وفي محاولة جادة لمفهمة وتمحيص الفعل الفلسطيني المقاوم، يشير الأكاديمي الجزائري د. صالح الشقباوي إلى أن هذا الفعل لا يخضع لقرار بل هو نتيجة قناعات راسخة ومتجذرة في الكيان الوطني الفلسطيني؛ لأنه العنصر الحاكم والأكثر تأثيرا في “معادلة التفاعل الداخلية لبنيات المجتمع الفلسطيني المختلف والمتواجدة في أماكن جغرافية مختلفة” لذلك فإن العدو الصهيوني -مهما بلغت درجة بطشه وإجرامه- لا يستطيع هزيمة الوعي الفلسطيني المقاوم من الناحية السيسيولوجية، وأثره البنيوي والتكويني في الذات الفلسطينية وفعله المتطور والمتجاوز الذي “ساهم إلى حد كبير في تغيير وقلب كل معادلات الصراع، ورفع وتيرة اليقين الجمعي الفلسطيني لتحقيق النصر الذي أصبح قريبا”.
ويؤكد د. الشقباوي أن المقاومة بوصفها منهجا ورؤية، هي ملكية سيكولوجية واعية تتوارثها الأجيال، وأنها صارت وفق نتائج الأحداث الأخيرة، رقما صعبا في معادلة الصراع، كما أن جيل المقاومة الحالي لديه القدرة والإمكانية التي تؤهله للسيطرة على اتجاهات المقاومة “ومساراتها التاريخية القادمة” لتكون ميراثا للأجيال القادمة.
ومما ثبت أيضا.. أن العدو الصهيوني لا يمتلك آليات مواجهة هذا الفعل المقاوم، مع تكرار سقوط نظرية الأمن الإسرائيلي التي عجزت عن السيطرة على محفزات الوعي الفلسطيني المتنامي والمعمق بحتمية المقاومة وجدواها.. وهو ما تؤكده تصريحات القادة الصهاينة.
لقد أيقن قادة الكيان بحقيقة مقولة “هيراقليطس” القائل “إنك لا تدخل قدمك في النهر مرتين” فما حدث في جنين قبل أكثر من عقدين؛ لن تستطيع قوات الاحتلال تكراره.. مهما حاولت والعملية الأخيرة خير شاهد على ذلك، جنين اليوم أكثر استعدادا وقوة وقدرة على التضحية والفداء، ليس على نحو بطولي فحسب؛ بل بقناعة تامة وإيمان عميق بأن الثمن الذي يٌقدم عبر الفعل المقاوم والصمود في وجه شراسة العدو- أقل بكثير من المقابل الفادح الذي تفرضه حالة الرضوخ والاستسلام للعدو وإرادته.
ولن يستطيع العدو وهو يعاني من أزمات متعددة تتمثل في حالة التفسخ الداخلية وتتجلّى في استمرار التظاهرات والتهديد برفض الامتثال للخدمة العسكرية على خلفية التشريع الذي يحاول أن يدفع به الائتلاف الحكومي- تلافي النتائج المترتبة على فشل العملية العسكرية في جنين، كما أنه لن يُقدم على اجتياح جديد يفاقم من خسائره؛ ليظل مجبرا على تحمل تكلفة المزيد من العمليات الفلسطينية في شمال الضفة الغربية؛ بالتزامن مع التصعيد من قبل حزب الله المتمثل في تحركات علنية في مزارع شبعا المحتلة.
لقد برهنت المقاومة في جنين على أن النصر الفلسطيني أقرب مما نتخيل، بشرط أن ننحي العديد من الأوهام جانبا ونتعامل بعقل واعٍ مع الحقائق على الأرض التي تؤكد أن إرادة المقاومة قد تجاوزت في قوة تأثيراتها؛ كل عوامل الإضعاف والتشكيك التي تبنتها سلطة أوسلو في الضفة الغربية؛ لتثبت فشلها في تحقيق الأمن للجانب الإسرائيلي الذي اعتمد عليها كثيرا في هذا الشأن.. وقد ثبت لديه بما لا يدع مجالا للشك عجز هذه السلطة الكامل عن تحقيق أهدافه.