رؤى

الهوية الفردية.. في ظل استحكام البُنى السلطوية (1-2)

ليس بالأمر العسير في كثير من المجتمعات أن يسود دمج وإذابة الهُوية الفردية داخل حدود الكتلة الصماء للهُوية الجماعية، بل ومحاولة قمعها بشكل تدريجي داخل أسوار حديدية قوية إلى أن تضمر وتتلاشى. وأشكال الهُوية الجماعية تبدأ من الانخراط في الأسرة الصغيرة، ثم في العائلة الكبيرة أو القبيلة، ثم في الجماعة أو الطائفة الدينية أو العرقية، وكذلك الحزب السياسي، والفئة العاملة في مهنة ما، إلى أن يصل الفرد في نهاية الأمر إلى ذلك الشكل من الانتماء الطوعي والتلقائي إلى الوطن الكبير أو إلى الدولة الصغيرة –بعد تفتت الكثير من الأوطان الكبرى والقوميات العظمى في العصر الحديث وتقسيمها إلى دويلات متجاورة ومتناحرة.

ولكن هذا النوع من الاندماج في الهُوية الجماعية الوطنية مثلما يفرض الإعلاء من أهمية المواطنة بكل ما لها من حقوق وما عليها من واجبات، فإنه أيضًا يطالب بضمان المساواة بين المواطنين؛ كي تتحقق العدالة في مُناخ لا يسلب الحريات.

وللوطن بصفة خاصة؛ بريق يصعب التنصل من الانتماء إليه والذوبان فيه، خاصة في ظل تقديس معنى الأمومة الكامن في حروف كلمة وطن، تلك الكلمة التي ما أن تتلاحم مع كلمة أم حتى يجد الفرد نفسه ملتصقًا بوطنه الذي وُلد ونشأ فيه، فإما أن يمضي حياته في وطنه الأم مهما كانت الظروف المعيشية فيه قاسية، أو أن يضطر إلى البحث عن وطن آخر يحتضنه هو وأحلامه، إذا لم ينجح في تحقيق طموحه بين أحضان ذويه وأهله وعلى أرض وطنه.

وذلك الاغتراب عن الوطن من الطبيعي ألَّا يكون هيِّنًا على الكثيرين، ولكن في لحظة ما لابد من الانتصار للهُوية الفردية وللطموح الشخصي، إذا ما صارت الحياة بلا معنى من فرط التضييق وصعوبة العيش؛ فمهما كان استحكام الذوبان العاطفي والوجداني في ظل مفهوم الوطنية؛ فإنه عندما لا يُسمَح بالتفكير الحر أو إعمال العقل؛ فلن تكون هناك أية هُوية فردية خاصة بعد النجاح في تكريس معنى الطاعة المطلقة للسلطة الأبوية بشتى أنواعها.. فهل حقًّا تستحق الهُوية الفردية ذلك القدر من الأهمية الذي يمنحها الأولوية والتفضيل والترجيح على ما سواها؟

إن مشكلة الهُوِيَّة هي بالأساس مشكلة نفسية لأنها تجربة شعورية، فمتى كان الإنسان هو نفسه ومتطابقًا مع ذاته، فستتحقق هُوِيَّتُه الأصيلة طالما هو يفكر ويتمتع بحريته؛ إذ أن الهُوِيَّة قائمة بالأساس على الحرية لأنها إحساس بالذات، والذات الإنسانية حُرة بفطرتها، وبالمثل فإن الحرية أيضًا قائمة على الهُوِيَّة لأنها تعبير عنها.

أي إنه إذا أصاب أي فرد الاضطراب بشأن دوره في الحياة، أو فيما يختص بقدرته على مواصلة حياته أو رغبته فيها، أو إذا شعر بعدم التوافق بين ما يريده لنفسه وما يريده الآخرون له، أو بين نمط الحياة الذي يريد أن يحياه، وذلك الذي يرى الآخرون أنه يجب أن يكون هو نمط حياته، فبالقطع سينشأ ما يُسمَّى بأزمة الهُوِيَّة.

وما دامت هُوِيَّة الإنسان هي حقيقته المطلقة وصفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره، فمن حق كل إنسان أن يشعر بذاته وبفرديته، وكذلك بقيمته وبتفرده وتميزه، بالإضافة إلى  قدرته على الحفاظ على ما يُعبِّر عنه وعن شخصيته المستقلة بكل ما تتميز به من فكر ومشاعر وانفعالات، وما يصدر عنها من أفعال وردود أفعال وتصرفات وسلوكيات.

وما دام البشر من الطبيعي أن يكونوا مختلفين في أشياء ومتشابهين في أخرى، فليس غريبًا أن يختلف مفهوم الهُوية من فردٍ لآخر باختلاف رؤية كل إنسان للحرية وتقديره لمدى أهمية استقلاله وتفرده. ومثلما هناك بشر يميلون إلى الخضوع ويركنون إلى التبعية بدون تفكير، فهناك أيضًا من يرفضون الانقياد لبشر مثلهم أو لقوانين وضعها غيرهم من البشر وتفرض عليهم الطاعة العمياء التي يترتب عليها إلغاء العقل أو الرضوخ للظلم.

وطالما أن الإنسان هو مخلوق حُر بالأساس؛ فلابد أن يدافع على مدار حياته عن حريته تلك، بكل ما أوتي من قوة وشجاعة؛ كي لا تُسلَب منه عنوة أو خلسة فيجد نفسه في نهاية المطاف يحيا بدونها. وكذلك عليه أن يخلق هُوِيَّته بنفسه، والأفضل أن يكون ذلك عن وعي منه لأنه سيتم في وقت ما حتى لو لم يتوفر له قدْر كاف من الوعي.

فكل إنسان يولد ويعيش ثم بعد ذلك يعي ذاته ثم يعي العالم الخارجي المحيط به، ولا يتشكل ذلك الوعي في غمضة عين، بل يحتاج إلى بعض الوقت، كلٌّ حسب قدرته على الإدراك والفهم والاستيعاب ومقدرته على الإجابة على كل التساؤلات التي يطرحها ذهنه من وقت لآخر، والتي قد تظل مُلحَّة عليه إلى أن يجد لها إجابة.

فماذا إذا فشل المرء في تحقيق ذاته التي يريدها هو، والتي لا تشبه تلك التي يمليها عليه من حوله تبعًا لما هو سائد وشائع؛ خاصة في ظل استحكام البنى السلطوية بتدرجها الهرمي المتلاحم والمتداخلة حلقاتها؟

إنه حتمًا سيشعر بالإحباط وسينتابه اليأس، خاصة إذا ما تأكد بمرور الوقت أنه قد فقد حريته؛ ومن ثم ستضيع هُوِيَّته فاقدًا إياها هي الأخرى. ومن هنا لابد أن تبدأ رحلته من أجل استعادة حريته ومن أجل البحث عن هُوِيَّته المتطابقة معه والتي تُعبر عنه بصدق غير مكترث بالظاهر، بقدر ما يهتم بالجوهر.

آنذاك.. سينتفي اغتراب الفرد عن ذاته؛ لأنه ما ينبغي أن يكون عليه، وما يريد أن يكون عليه، سيتطابق مع ما هو عليه بالفعل؛ وبالتالي لن تنقسم الذات على نفسها، ما دام الإنسان قد استعاد حريته، فتحرر من الخضوع والاستسلام لما يحيط به، من ضغوط أو ظروف أو إملاءات. ومتى استطاع الإنسان أن يستعيد ثقته بنفسه؛ مُستردًّا قوة إرادته وعزيمته، فسيقاوم أي شعور بخيبة الأمل أو الحزن والحسرة، وسيتمكن حينئذٍ من تحقيق ذاته. ومهما كانت العقبات؛ فسيظل يكفيه أنه يسير بخطى واثقة وراسخة في طريق الحرية.

إذن هو الاختيار بكل ما يحمله من صعوبة وكل ما ينطوي عليه من عقبات، والذي قد يكون قرارًا متسرعًا أو يقينًا خالصًا، ولكنه في النهاية إما أن تكون عاقبته هي الانتصار للهُوية الفردية وللوجود الإنساني وللحرية، أو إعلان هزيمة الإنسان الذي ضحَّى بحريته، في مقابل حياة لا تليق سوى بالعبيد ولا تريح سوى الأنعام.

ولكنَّ كثيرين ممن لا تعنيهم الحرية أو الكرامة الإنسانية؛ سيرون ضآلة ما تعنيه الهُوية الفردية أمام مكاسب الحياة المادية وملذاتها المتجددة، وهؤلاء بالقطع لن يصيبهم أي شعور بالاغتراب أو الانقسام، بين ما هم عليه بالفعل من بذلٍ سهلٍ لكل ثمين ونفيس، من أجل منصب مرموق أو مال أو ثروة، وما يجب أن يضحوا به من أجل الحفاظ على أنفسهم سوية بلا أخطاء أو زلات؛ تهوي بهم وتحط من قيمتهم وكرامتهم الإنسانية.

وللأسف تلك الفئة من البشر كلما كانوا هم الأكثر عددًا ونفوذًا – كلما كان من الصعب تغيير الواقع بكل ما يحمله من فساد وسوء. آنذاك.. يكون اختيار الحرية والتضحية من أجل الهُوية الفردية أكثر صعوبة على الإنسان، فإذا بكل ما هو سيئ في الواقع يستحيل تغييره، وكل ما يجب أن يكون أفضل في المستقبل نعجز عن تحقيقه. ولكن مع ذلك يظل هناك من يقاوم أية معوقات تحاول قمع رغبته العارمة في الحصول على حريته وما تجنح إليه نفسه من طموح جارف في تحقيق هُويتها الفردية.

فأي مكسب يا تُرى، يمكن أن يجنيه الإنسان، إذا قرر أن يتحدى كل ما يحيط به من بًنى سلطوية مُستَحْكَمة ومُتحكِّمة في كل شيء رغم كل ما تتمتع به من جبروت، ومهما أتيح لها من إحكام لسيطرتها وبغيها وطغيانها؟! وكيف يمكن الحفاظ على الهُوية الفردية، إذا تمكن الإنسان من تحديد معالمها وإذا استطاع أن يتبصر حدودها؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في المقال القادم.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock