بعد نحوٍ من أربعة أسابيع على زيارته إلى موسكو، توجه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، لزيارة العاصمة الصينية بكين، ليبحث مع نظيره الصيني شي جين بينغ، وكبار المسئولين الصينيين، حزمة ملفات ثنائية تخص العلاقات السياسية وتحديث آفاق التعاون الاقتصادي؛ فضلًا عن مسألة انضمام الجزائر إلى مجموعة “بريكس”، إضافة إلى قضايا دولية وإقليمية متعددة.
ولا تتوقف دوافع الجزائر عند هذه الحدود؛ بل تستهدف الزيارة، تحديث اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة، الموقعة بين الجزائر وبكين منذ العام 2014، وإنشاء مجلس أعمال جزائري صيني مشترك، يُمكن أن يوفر جملة من الفرص والامتيازات التي يُتيحها قانون الاستثمار الجديد في الجزائر.
عوامل متشابكة
المُلاحظ، أن الرئيس الجزائري، في زيارته إلى بكين، يحاول تكريس سياسة تتضمن استدارة ناحية الشرق (الصين وروسيا) إذ تُعزز زيارة تبون لبكين استدارة سياسية واقتصادية لافتة للجزائر، خاصة بعد زيارات سابقة لدول الخليج العربية وتركيا، فضلا عن قطر؛ الأمر الذي يعكس توجها سياسيا يستند إلى عدة عوامل متشابكة.
ولعل أهم هذه العوامل هي:
أولًا: استقطاب استثمارات صينية في قطاعات مختلفة؛ إذ تتطلع الجزائر إلى استقطاب الاستثمارات الصينية، ليس فقط في قطاع الطاقة، ولكن أيضا في اتجاه استغلال المناجم والصناعات التحويلية؛ ومنها تسريع تنفيذ مشروع استغلال وتحويل الفوسفات في منطقة “بلاد الهدبة” بتبسة، التي تقع قرب الحدود مع تونس، وهو مشروع يعتمد على استثمارات صينية تصل قيمتها إلى نحو سبعة مليارات دولار، لإنتاج الأسمدة بمختلف أنواعها.
فضلا عن ذلك، تستهدف الجزائر تنفيذ عدد من المشروعات الحيوية؛ يأتي في مقدمتها استغلال منجم الحديد في “غار جبيلات”، جنوب غرب البلاد، الذي تولته ثلاث شركات صينية، لاستخراج خام الحديد بأكثر من ملياري دولار، بحسب وزارة الطاقة والمناجم الجزائرية، في مارس الماضي. إضافة إلى تنفيذ عدد من مشروعات البنية التحتية؛ مثل إنجاز ميناء الجزائر في منطقة “الحمدانية” بشرشال غرب العاصمة الجزائرية.
ثانيا: تحديث اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة؛ حيث ترتبط الجزائر مع الصين بعدد من الاتفاقيات، من قبيل “خطة التعاون في المجالات الرئيسية” التي تمتد حتى عام 2024؛ وأيضا، “الخطة الخماسية الثنائية للشراكة الاستراتيجية” (2022-2026) التي تستهدف -بحسب وزارة الخارجية الجزائرية- تكثيف التواصل والتعاون بين الجانبين في كافة المجالات.
وإضافة إلى هذه الاتفاقيات – وبحسب وسائل إعلام جزائرية- تستهدف الزيارة تحديث الاتفاقية الموقعة بين الجزائر وبكين منذ عام 2014، اتفاقية “الشراكة الاستراتيجية الشاملة”؛ وإنشاء مجلس أعمال جزائري صيني مشترك، يُمكن أن يوفر جُملة من الفرص والامتيازات التي يُتيحها قانون الاستثمار الجديد في الجزائر، ويضم رجال الأعمال والمستثمرين من البلدين.
ثالثًا: الرغبة في الانضمام إلى مجموعة “بريكس” إذ لم يخف الرئيس الجزائري، خلال زيارته إلى موسكو، منتصف يونيو الماضي، رغبة بلاده في الحصول على عضوية مجموعة بريكس، وعبر عن ذلك بالقول “الجزائر تريد التعجيل في دخول منظمة بريكس، والخروج من هيمنة الدولار والأورو، كون ذلك فيه فائدة كبيرة لاقتصادنا”.
ورغم ما يبدو من خلال مقولة تبون، من أن الجزائر تستهدف بُعدين أحدهما سياسي والآخر اقتصادي، عبر محاولة انضمامها إلى مجموعة بريكس؛ إلا أنها تولي الأخير اهتماما متزايدا، ذلك أن مثل هذا الانضمام يتيح لها إمكانية حصولها على تسهيلات تجارية واقتصادية؛ إضافة إلى تعميق علاقاتها البينية مع المجموعة، خاصة مع الصين التي تُمثل أكبر مستورد للطاقة على مستوى العالم؛ والتي يُمَكِّن الجزائر في الوقت نفسه، الاستفادة من استثماراتها في صناعات النفط والغاز الجزائريين.
رابعًا: محاولة تفعيل الروابط الاقتصادية والسياسية؛ باعتبار أن الاقتصاد الصيني يأتي في المركز الثاني عالميًا، فضلًا عن تميزه بالتنوع والنمو؛ لذا تأتي زيارة تبون إلى بكين باعتبارها “فرصة تاريخية”، لأجل الاستفادة من التعاون الاقتصادي مع الصين؛ والأهم، ضمان استمرار تدفق المشروعات الاستثمارية الصينية إلى الجزائر، والانتقال بها إلى مستويات استراتيجية أعلى.
وإذا كانت هذه الزيارة، هي الزيارة الأولى لرئيس جزائري إلى بكين، منذ عام 2008، فإنها تبدو مهمة بالنسبة إلى الجزائر، على مستوى محاولة تفعيل الروابط الاقتصادية؛ حيث تأتي الصين على لائحة أول شريك تجاري ممول للجزائر، منذ عام 2019؛ هذا إضافة إلى أن أحد أهداف الزيارة هو الرغبة الجزائرية في البحث عن تفعيل الروابط السياسية، مع دولة لها ثقل على مستوى ساحة العلاقات الدولية.
خامسًا: تفعيل الخطة التنفيذية لـ”الحزام والطريق”؛ إذ انضمت الجزائر إلى مبادرة “الحزام والطريق” في عام 2018، وفي مارس 2022، أعلن الجانبان عن التوصل إلى توافق حول “الخطة التنفيذية للبناء المشترك للمبادرة”، وأنه سيوقع عليها في أقرب فرصة ممكنة. وهذه الخطة، في حال تفعيلها والتوقيع عليها، ستلعب دورًا مهمًا في تعميق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
فإضافة إلى وجود تعاون مشترك بين الجزائر وبكين، على مستوى الموانئ البحرية، وحتى الجافة منها، والتي تشكل أساس المبادرة؛ فإن الجزائر -بالنسبة إلى الصين- تُمثل إحدى البوابات الأساسية للقارة الأفريقية، وانضمامها إلى المبادرة يُساهم في فتح الطريق أمامها للدخول إلى أسواق القارة، خاصة في منطقة غرب أفريقيا.
وأخيرًا: تأكيد التعاون الأمني والعسكري مع الصين؛ حيث تمكنت الصين، في مجال العلاقات العسكرية، من الدخول على خط التعاون مع الجزائر في هذه المجالات؛ بل واستطاعت اختراق السوق الجزائرية بالعديد من أنواع الأسلحة، وتطوير منظومات الدفاع والجيش الجزائري. هذا، فضلًا عن تعزيز التعاون في مجال تكنولوجيا المعلومات.
بل إن التعاون الجزائري مع بكبن، لم يتوقف عند حدود الصفقات العسكرية؛ ولكن وصل إلى مجال الفضاء؛ حيث أطلقت الجزائر أول قمر صناعي يحمل اسم “ألكوم سات”، من قاعدة فضائية في الصين، موجه للاتصالات اللاسلكية والبث الإذاعي والتليفزيوني والإنترنت، وذلك في عام 2017.
استدارة جزائرية
في هذا السياق، يُمكن القول بأن زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى بكين، تأتي في إطار “استدارة جزائرية” في اتجاه الشرق، نحو روسيا والصين. وهي استدارة، تستهدف مواجهة الضغوط الغربية عمومًا، والأمريكية على وجه الخصوص. إلا أن العلاقات الجزائرية مع الصين، تعتمد على الأبعاد الاقتصادية والاستثمارية، ربما أكثر من المجالات الاستراتيجية، التي تتميز بها العلاقات الجزائرية الروسية.
ورغم أن الجزائر، عبر هذه الخطوة، تضع نفسها في خانة التوتر مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي أبدت قلقها من اتجاه الجزائر نحو روسيا؛ وفي الوقت نفسه، يمكن أن تتسبب في إشكاليات مع أوروبا، التي ماتزال تُمثل الشريك التجاري الأول للجزائر.. إلا أنه، رغم هذا وذاك، فإن خطوة الاستدارة الجزائرية نحو الشرق، تأتي في إطار التغير الجذري في السياسة الخارجية منذ أن وصل تبون إلى سدة الحكم، في ديسمبر 2019.