رؤى

وداعا شنيد أوكونور.. ولا عزاء للأنقياء

غيّب الموت الأربعاء الماضي المغنية الإيرلندية المناصرة للقضية الفلسطينية، شنيد أوكونور عن عمر ناهز السادسة والخمسين.. بعد حياة حافلة بالفن والصراع والألم والمواقف النبيلة دفاعا عن الإنسان في مواجهة كل سلطة غاشمة.. كانت شنيد أو شهداء كما أسمت نفسها عقب إعلانها أنها صارت مسلمة  قبل خمس سنوات- قد بدأت رحلتها الفنية قبل نحوٍ من ثلاثة وثلاثين عاما من خلال برنامج “أفضل أغاني البوب” على شاشة بي بي سي- بأغنية  “لا شيء يقارن بك”. اختيرت الأغنية أفضل أغنية فردية في العالم لعام 1990، ووصفها النقاد بأنها فجّرت المشهد الموسيقي العالمي، وبيع منها أكثر من سبعة ملايين نسخة.

لقد بقي ذلك الحضور الساحر لشنيد في ذاكرة الأمة البريطانية لفترة طويلة.. حضور لا يتسم بالقوة والتحدي فحسب؛ لكنه يفصح أيضا عن هشاشته وضعفه الإنساني.. قبل خمس سنوات من ظهورها الأول فقدت أوكونور أمها في حادث.. وبرغم قسوة الأم التي أفقدتها أحقية حضانة طفلتها ابنة الثامنة؛ إلا أن شنيد الرقيقة الحالمة كادت أن تقضي حزنا على أمها التي كانت حسب تعبيرها “ليست لديها قدرة على الحب”.

“أشعر بألم لا يطاق، وأحتاج منكم أيها الأوغاد أن تعرفوا عرضه وعمقه واتساعه؛ حتى نتمكن من تحمله معا”. هكذا عبّرت أوكونور عن حجم التياعها جرّاء هذا الفقدان.. بدأت الفتاة بالتعافي رويدا رويدا.. الفن يشفي تلك الجراح الغائرة مع الوقت.. لكنه يعمقها بطريقة أخرى.. يمنح الفن القدرة على التعبير عن تلك الانفعالات الصاخبة.. لكن شيئا ما في الواقع المعاش يتضرر بقسوة.. ربما يكون هذا ما حاق بأوكونور.. شيء ما أفلت من عقاله فصار جامحا وجارحا جدا في آن.

مبكرا بدأت شنيد صدامها مع الكيانات التي رأت أنها متحيزة ولا تعرف مبدأ المساواة.. أعلنت أن الكنيسة الكاثوليكية ذكورية، تحتقر النساء وتتستر على كثير من الجرائم والمخازي .. فوجئ الإيرلنديون بها وقد رُسّمت كاهنة في إحدى الكنائس المحلية (كنيسة ترايدنتاين) عندما ظهرت عام 1992، برأسها الحليق في ملابس الكهنة في لقاء متلفز.. ومن خلال البرنامج التلفزيوني الأميركي “ساترداي نايت لايف” ظهرت مجددا ومزّقت صورة البابا يوحنا بولس الثاني تنديدا بالاعتداءات الجنسية على الأطفال في الكنيسة!

كذلك احتلت القضية الفلسطينية موقعا هاما لدى أوكونور، حتى صُنّفت بأنها من أشد المدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني.. وعقب إسلامها عام 2018، شاركت “شهداء” في فعاليات عديدة لنصرة المسجد الأقصى؛ منددة بالانتهاكات الصهيونية للمقدسات الإسلامية.. ووصل الأمر بها إلى السفر إلى القدس؛ للغناء دعما للحق الفلسطيني.. وعندما حاول جنود الاحتلال منعها، اشتبكت معهم ورفضت مغادرة المدينة المقدسة.. ومن تصريحاتها للإعلام حول القضية الفلسطينية: “لا يوجد أي شخص عاقل -بما في ذلك نفسي- لا يُكنّ التعاطف الشديد للفلسطينيين في محنتهم.. كما لا يوجد أي شخص عاقل على وجه الأرض يقبل بأي شكل من الأشكال، ما ترتكبه سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الأرض العربية”.

تزوجت شنيد أربع مرات وصارت أما لأربعة أطفال.. حاولت الانتحار أكثر من مرة بعد تشخيص حالتها باضطراب ثنائي القطب.. لكنها واصلت المقاومة بكتابة الأغاني والغناء متخذة من الموسيقى سبيلا للشفاء “كل ما أردته أن أصرخ فقط.. وأن أستمر في الصراخ”.

“لا أريد أن أضيع الحياة التي منحني إياها الله.. ولا أعتقد أن الأوان قد فات لإنقاذي”.

لقد ظلت أوكونور متمسكة بالحياة، رغم الفوضى الشاملة والضياع الهائل الذي اجتاح بلا هوادة تفاصيل تلك الحياة التعسة.. إلا أن كان حادث انتحار ابنها شين العام الماضي، والذي قضى على أي قدرة لها على المقاومة.. كان الابن قد نجا من محاولة انتحار سابقة، وأودع أحد المشافي.. ولازمته شنيد التي طالما وصفته بحب حياتها ومصباح روحها الذي أحبها أكثر من الكل؛ لكن شين هرب من المشفى وأنهى حياته.. ومعها أنهى حياة أمه المكلومة التي وصفت نفسها بعد ذلك بقولها “أعيش كمخلوق ليلي غير ميت”.

وبحسب الكاتبة هيلين براون.. عاشت المغنية الراحلة حياة فوضوية ومشوشة، لكنها لم تكن أبدا قادرة على الكذب.. كانت إنسانة استثنائية وذكية؛ ولكن محطمة تبحث بضراوة عن حقيقة لتتشبث بها.

في أغنية بعنوان “تضحية” وبأداء خلاب يتجاوز السحر.. وعلى أنغام قيثارتها الباكية.. رددت شنيد أوكونور في نهاية الأغنية عبارة “لقد أعطيت قلبي” فيما يشبه التساؤل، وفيما يحتمل معنى الإجابة.. بتسليم وخضوع تامين.. وبما يحمل على نحو صريح اتهاما بالتخلي والخذلان.

لقد حملت تلك الروح الثائرة المتمردة لنا، رسالة مفعمة بالصدق والإخلاص.. قبل رحيها المفجع الأربعاء الماضي.. ومن مضمون تلك الرسالة علينا أن نعي أن وجودنا على الأرض لا يجب أن ينسينا أننا في الأصل أرواح تتوق إلى التحرر من القيد التماسا للنور العلوي الذي به تقر وتهدأ.. رحم الله النبيلة شهداء صدقات أو شنيد أوكونور.. تلك الروح المعذبة الحالمة.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock