سلّط الانقلاب العسكري في النيجر في السادس والعشرين من يوليو المنقضي- الضوء على إشكاليات الوضع الدولي، والتناقضات بين القوى الدولية الكبرى. ولقد أظهر هذا الانقلاب – الذي جاء بعد انقلابين في منطقة الساحل الأفريقي، في مالي وبوركينا فاسو- ضعفا واضحا في النفوذ الفرنسي، خصوصًا أن النيجر كانت تُعد من آخر حلفاء باريس في المنطقة؛ بما يعني تراجعًا فرنسيًا في منطقة الساحل، في مُقابل تمددٍ روسي واضح، من شرق أفريقيا إلى غربها، مرورًا بالساحل الأفريقي.
وما بين التراجع الفرنسي وتداعياته، والتمدد الروسي وإشكالياته، يتسم الموقف الأمريكي بقدر كبير من الغموض وعدم التحديد، سواء بالنسبة إلى الانقلاب في النيجر بحد ذاته، أو في الموقف من المجلس العسكري الحاكم في نيامي، أو في التشدد الذي تتخذه المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” تجاه الانقلاب.. فضلًا عن تصريحها الواضح بإمكانية التدخل واستخدام القوة العسكرية لإنهاء الانقلاب.
ويبدو أن ثمة تناقضات في المواقف من جانب القوى الدولية الكبرى، تجاه انقلاب النيجر.. يمكن توضيحها من خلال المواقف التالية:
أولًا: الإخفاق العسكري الفرنسي في أفريقيا؛ إذ فضلا عن جنوح العلاقة بين فرنسا والمجلس العسكري في النيجر، نحو مزيد من التأزم، كما تدل على ذلك العديد من المؤشرات؛ فإن انقلاب النيجر جاء ليُضيف فشلًا سياسيا جديدا إلى سلسلة الإخفاقات الفرنسية في القارة الأفريقية؛ ولعل انتشار التظاهرات المُنددة بالوجود الفرنسي في نيامي، ورفع المتظاهرون فيها الأعلام الروسية، يُظهر بوضوح أن الرأي العام الأفريقي لم يَعُد يتقبل الوجود الفرنسي على أراضيه، بأي شكل من الأشكال.. بل إن الوجود الفرنسي، بعد انتهاء عملية “سيرفال” عام 2013، وتمديده من خلال عملية “برخان” ساهم في تحويل هذا الوجود -في نظر الأفارقة- من قوة لمكافحة الإرهاب إلى قوة احتلال بحكم الأمر الواقع.
وضمن تداعيات هذا الإخفاق الفرنسي -في أفريقيا عمومًا- وفي منطقة الساحل الأفريقي بشكل خاص، يأتي الأمر الذي أصدره المجلس العسكري الحاكم في نيامي، للمطالبة برحيل القوات الفرنسية من النيجر، الذين يُقدَّر عددهم بـ 1500 جندي؛ وهي المُطالبة الثالثة التي تتكرر في بلدان الساحل الأفريقي، بعد مالي وبوركينا فاسو. ومن ثم، يأتي الانقلاب العسكري في النيجر ليُؤسس لنهاية حقبة من السيطرة التاريخية الفرنسية، التي استمرت عدة عقود على منطقة الساحل الأفريقي.
إلا أن هذا الإخفاق الفرنسي، لا يتوقف عند حدود التراجع الخاص بالتواجد العسكري؛ ولكنه يتجاوز ذلك إلى الأبعاد الاقتصادية، وإمكانية التأثير على الأمن القومي لفرنسا ومكانتها الأوروبية والدولية. إذ لنا أن نلاحظ أن لفرنسا مصالح اقتصادية وطاقوية مهمة أيضا في النيجر، التي تُعَد خامس أكبر مُنتج لليورانيوم في العالم؛ من حيث إن فرنسا تحتاج إلى عدة آلاف من الأطنان سنويا من اليورانيوم لتشغيل هذه المحطات.
بل إن الأهم هو ملاحظة أنه وفقا لأرقام “Euratom” فإن 24 % من اليورانيوم المستخدم في أوروبا، في عام 2021، كان قد جاء من النيجر؛ وبالتالي، يمكن تفهم التخوفات الأوروبية، وليس الفرنسية فقط، من أن يسعى المجلس العسكري الحاكم في نيامي إلى تأميم هذا القطاع، خصوصا في حال حصول تشجيع من جهات خارجية أخرى.. مثل روسيا.
ثانيا: التمدد الروسي على امتداد الساحل الأفريقي؛ حيث تُعَد النيجر الدولة الثالثة والأهم في سلسلة إنهاء التواجد العسكري الفرنسي، بعد مالي وبوركينا فاسو، والاستعاضة عنه بالتواجد الروسي؛ وتحديدا مجموعة “فاغنر” الروسية، التي أصبح بإمكانها السيطرة على شريط بري متواصل، من السودان في شرق أفريقيا إلى موريتانيا في غرب القارة، أي إنها سوف تتمدد على طول منطقة الساحل الأفريقي، من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلنطي.
هذا وإن كان يؤكد نجاح موسكو في نشر دعاية مُكثفة مناهضة لفرنسا في منطقة الساحل، عبر أدوات العمل الخاصة بمجموعة فاغنر، ما أدى إلى تنامي الشعور المُعادي لفرنسا، في المنطقة، وفي داخل النيجر حتى قبل حدوث الانقلاب فإنه – في الوقت نفسه- يُؤشر إلى أن الانقلاب العسكري في النيجر لا يمكن اعتباره عملا مُفاجئا، نظرا إلى عدد الانقلابات التي نُفذت من قبل.
فإضافة إلى أن هذا هو الانقلاب الخامس، منذ استقلال النيجر في عام 1960، فإن الرئيس المُحتجز محمد بازوم، قد تعرَّض لمحاولة انقلابية فاشلة من قبل؛ ومن ثم يكون اللافت هو عجز المخابرات الفرنسية عن التنبه إلى أمر الانقلاب الأخير.
ثالثًا: الغموض الواضح في الموقف الأمريكي؛ حيث لا يزال الموقف الأمريكي، من الانقلاب العسكري في النيجر وتداعياته، يتسم بالغموض وعدم الوضوح؛ هذا رغم أن الولايات المتحدة تمتلك داخل النيجر أكبر قاعدة أمريكية للطائرات المُسيرة خارج البلاد؛ ورغم أن هذه القاعدة تُمثل ركيزة أساسية لعمليات واشنطن الاستخباراتية في قارة أفريقيا.
وربما يكون أحد عوامل الحذر الأمريكي، من اتخاذ موقف متشدد، تجاه الانقلاب أو القائمين به، هو التخوف من التقارب مع روسيا، من جانب المجلس العسكري في نيامي، بالتزامن مع تنامي حالة السخط في داخل النيجر من فرنسا والغرب عموما؛ وهو ما ظهر في مُطالبة بعض المتظاهرين المؤيدين للانقلاب بضرورة طلب الدعم من روسيا.
بل إن ساليفو مودي الرجل الثاني في المجلس العسكري الحاكم في النيجر، كان قد زار مالي، في 2 أغسطس الجاري، لإجراء مشاورات مع المجلس العسكري الحاكم في باماكو، بخصوص إمكانية طلب الدعم من مجموعة “فاغنر” الروسية، في حال أي تدخل عسكري من إحدى دول غرب أفريقيا، أو من خلال مجموعة إيكواس.
في هذا السياق، يمكن القول بأن نجاح الانقلاب العسكري في النيجر سوف يؤسس لمرحلة جديدة، في منطقة الساحل الأفريقي، على الأقل من منظور التباينات الواضحة في مواقف الدول الأفريقية من الانقلاب، ومن المجلس العسكري الحاكم في نيامي، وأيضا تجاه القوى الدولية الكبرى، خاصة فرنسا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
فهذه القوى الدولية الثلاث، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، والصين طبعًا، تتناقض مواقفها تجاه انقلاب النيجر، تبعًا لمصالحها؛ وفي الوقت نفسه، تبعا لمواقعها على سلم القائمة الدولية، التي يبدو أن ترتيبها سيتغير في المدى لقريب، تبعا لنتائج الأحداث العالمية الكبرى على الساحة الدولية، وفي مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية، والانقلابات العسكرية في غرب أفريقيا، وخصوصا في منطقة الساحل الأفريقي.