فن

شوقي عبد الحكيم .. فيلسوف التراث الشعبي

لم تكن بالنسبة إليه مجرد حكايات شعبية شيقة اعتاد على سماعها منذ أن كان صبيا صغيرا، أو بعض المواويل المُسلية التي تَروي قصصًا تراثية شعبية؛ بل كان بعضها منبعا خصبا لفلسفته عن الموت والصمت والقدَر والضمير، ولفكرته عن النهاية وانتظارها بكل استسلام من ناحية، و من ناحية أخرى اختيارها والسعي إليها عن عمد.

إنه القدَر الذي لا فرار منه، والعمل الذي يلازم المرء كظله، وكيف يسير الإنسان في حياته إلى ما هو مكتوب عليه، ويمشي إليه بقدميه دون أن يرى نفسه، أو يتأمل عمله، أو يخجل من إذعانه لما يحيط به حتى لو كان سببا في موت إنسانيته وقتل روحه! ولماذا يرفض الكثيرون أي نوع من المقاومة معلنين الاستسلام!

وهكذا كانت للكاتب المسرحي شوقي عبد الحكيم رؤيته الفلسفية للحكايات الشعبية.. وكذلك للموال القصصي بوصفه شكلا من أشكال الأدب الشعبي الذي استلهم منه بعض مسرحياته، والتي نجح في أن ينسج لها ثوبًا دراميًّا يعبر عن رؤيته الفلسفية، بالرغم من تأثره بالتكنيك الغربي، وهو ما حدث في مسرحية حسن ونعيمة، ومسرحية شفيقة ومتولي.

شوقي عبد الحكيم لم يكن فقط باحثًا في التراث الشعبي القصصي وجامعًا له؛ بل كان أيضا أديبا وكاتبا مسرحيا. فما أن أبحر في بحر التراث الشعبي؛ حتى قرر أن يجمعه ويرويه، وقاده ذلك إلى الدراسة والبحث من أجل التوثيق من ناحية، وإلى الكتابة العلمية والأدبية الإبداعية من ناحية أخرى، فتحولت بذلك هوايته إلى شغله الشاغل الذي أمضى فيه حياته دون كلل أو ملل.

وليس غريبًا على ابن الريف المصري الذي وُلِد في إحدى قرى محافظة الفيوم، وبالتحديد في مركز سنورس، أن يكون مشغولا بالأدب الشعبي أو منجذبا لما يسمعه من المغنواتية والمداحين والندابات، وهم يرددون عبارات وحكايات قديمة ومتوارثة؛ ولكنها ما زالت حية على ألسنتهم وأثرها مستمر كونها جزءا من حياتهم. وبالتالي فقد كان شغف شوقي عبد الحكيم بالسير الشعبية والملاحم البطولية هو ما دفعه إلى الكتابة الأدبية؛ وخاصة المسرحية بكل ما فيها من سحر وروح يبثها الجمهور بتفاعله المباشر مع النص.

اهتم شوقي عبد الحكيم المولود في الأول من يناير عام 1934، بالأدب الشعبي؛ ولكنه عندما التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة اختار أن يدرس الفلسفة، وبعد تخرجه عام 1958 قادته اهتماماته السياسية إلى المعتقل عام 1959، وبعد خروجه من السجن وفي مطلع الستينيات بدأ نشر كتاباته الأدبية وكتبه البحثية، وكانت البداية مع كتابه أدب الفلاحين الذي جمع فيه الكثير من الحكايات الريفية الشعبية والتي سمعها في فترة طفولته وصباه في قريته بالفيوم.

وفي عام 1964، عرضت مسرحيته حسن ونعيمة التي كتبها عام 1960، على مسرح الجيب، وكانت من إخراج كرم مطاوع وبطولة أمينة رزق وتوفيق الدقن ومحسنة توفيق وملك الجمل. وإذا كان الكاتب والشاعر عبد الرحمن الخميسي، قد تناول من قبل تلك القصة الشعبية في مسلسل إذاعي من إخراج محمد توفيق وبطولة صلاح منصور وكريمة مختار وعمر الحريري، ثم قدَّمها بعد ذلك في فيلم سينمائي عام 1959من إخراج هنري بركات وبطولة الوجهين الجديدين آنذاك سعاد حسني ومحرم فؤاد، فإن شوقي عبد الحكيم كانت له رؤية مختلفة لهذه الحكاية بعيدًا عن قصة الحب الرومانسية، فإذا به يمزجها بخيال الأديب والكاتب المسرحي في طرح كان الأول من نوعه، لما يمكن أن يدور بين نعيمة وأبويها بعد مقتل حبيبها حسن.

ولقد أعادت فرقة حسن فتحي بالأقصر تقديم تلك المسرحية في عام 2015، برؤية المخرج خالد عطا الله، وقبل ذلك بعام أعيد أيضا عرض ذلك النص المسرحي على خشبة مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، بعد خمسين عاما من عرضها الأول، وأخرجها الناقد والمؤلف والمخرج المسرحي حسن سعد.

https://www.youtube.com/watch?v=qXIkzOcJD-o

وفي عام 2003، فارق شوقي عبد الحكيم الحياة في يوم 16 أغسطس بعدما ترك ما يناهز الأربعين كتابًا في التراث والأدب، منها 18 مسرحية مستلهمة من التراث الشعبي مثل: المستخبي، وخوفو، والشبابيك، والأعيان، ومولد الملك معروف، وشفيقة ومتولي وهي مسرحية من فصل واحد مثل مسرحية حسن ونعيمة، وقد كتبها عام 1961، ثم تحوّلت بعد ذلك إلى فيلم سينمائي عام 1978، من إخراج علي بدرخان وسيناريو وحوار صلاح جاهين وبطولة سعاد حسني وأحمد زكي.

ولشوقي عبد الحكيم أيضا العديد من الروايات مثل: بيروت البكاء ليلا، ودم ابن يعقوب، وأحزان نوح التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني عام 1989، من إخراج إبراهيم الصحن وسيناريو وحوار فايز غالي وبطولة عبد الله غيث ونادية رشاد.

https://www.youtube.com/watch?v=SroY1hYe1iY&list=PLSvtbB23iW5Ua3CkDcyEcECxHBw0ErAUu

لقد بدأ شوقي عبد الحكيم حياته المهنية كمحرر أدبي بجريدة الأهرام عام 1962، ثم التحق بجريدة الأخبار عام 1964، ثم عمل بإذاعة بي بي سي بلندن بالإضافة إلى عمله كصحفي وذلك خلال إقامته لعدة سنوات هناك.

وكان شوقي عبد الحكيم أيضا ممثلا لمصر في العديد من المؤتمرات الدولية عن التراث الشعبي، كما حاز على عدد من الجوائز المسرحية؛ بالإضافة إلى تكريمه في الدورة الخامسة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي.

وبعد تنقيبه في شبابه عن المواويل الشعبية القصصية في شمال مصر وجنوبها، كانت سلسلة أبحاثه وكتبه عن السير والملاحم الشعبية مثل: الأميرة ذات الهمة، والزير سالم، وسيرة الملوك التباعنة، وسيرة بني هلال، وعزيزة ويونس، وسارة وهاجر. أما أهم الكتب البحثية لشوقي عبد الحكيم في التراث الشعبي فهي موسوعة الفولكلور والأساطير العربية، والشعر الشعبي الفولكلوري دراسة ونماذج، والرجل والمرأة في التراث الشعبي، والسير والملاحم الشعبية العربية، والحكاية الشعبية العربية، وعلمنة الدولة وعقلنة التراث العربي، والموت والتفاهة، والضحك والدمامة.

ومن بين أشهر المقولات، التي كان يرددها شوقي عبد الحكيم، من وحي إحدى القصص والحكايات الشعبية الريفية المتوارثة، والتي تعبّر عن مدى تأثير الفقر على حياة المساكين والمطحونين: “طق العليل مات لما الطبيب سأل: حق الدوا على مين؟”.

ولقد وصف الأديب يحيى حقي؛ عشق شوقي عبد الحكيم لأدب الريف أو أدب الفلاحين؛ بأنه عشق فيه تحيز وبدون تكلف، فهو لا يهدف إلى ركوب الموجة الرائجة آنذاك؛ بل إنه يراه مجبولا على ذلك العشق، لما في طبعه من رقة وبساطة وألفة مع أهل الريف، الذي ينتمي إليهم والذي عبَّر عنهم  بصدق بعدما استوعب طبائعهم.

هذا وقد اعترف شوقي عبد الحكيم بنفسه، أن أعماله المسرحية لا تخرج عن إطار التجربة؛ ومن ثم فهو لا يريد أن يلتزم شكلًا معينًا بل إنه ما زال لا يرى أين تقوده قدماه! ولذلك فقد تصدَّى الأديب يحيى حقي للرد على من يهاجمون شوقي وأعماله، وعاب عليهم لعدم تقبلهم لخروجه عمَّا هو مألوف، وذلك على عكس ترحيبهم بالتجارب الحديثة في المسرح الغربي في تجاهل واضح للتباين الثقافي بين الشرق والغرب.

ولأن يحيى حقي كان يرفض الاعتماد على الاقتباس – فقد كان يبحث عن سبل للجمع بين الأصالة والمعاصرة؛ ومن ثم كان ترحيبه بإبداع شوقي عبد الحكيم الذي كان يرى بدوره أنه من أجل الوصول إلى مسرح يعبر عن الشعب فلابد من الرجوع إلى أدب الفلاحين، واتخاذه موضوعا أو خلفية للأعمال المسرحية، فذلك في نظره كان هو السبيل للوصول إلى المعاصرة دون تخل عن أصالة الهُوية الثقافية المصرية.

أما أهم سمات مسرح شوقي عبد الحكيم.. فهي تناوله موضوعات القدَر والضمير والعلاقة بين الفرد والمجتمع. والحوار عنده كان بين ضميرين، فهو يدور في منطقة اللا وعي أو الشعور الداخلي، وهو عبارة عن مجموعة مونولوجات داخلية فردية متصلة، وإن كانت تبدو في ظاهرها متقطعة لتداخل بعضها في بعض.

ويضيف يحيى حقي أنه فيما يتعلق بالإنسان في قصص وحكايات شوقي عبد الحكيم؛ فيبدو أنه أسير قوتين تسيطران عليه ولا قِبل له بهما، وهاتان القوتان هما قوة القدَر وقوة المجتمع، ويرى شوقي عبد الحكيم أن هاتين القوتين غير ظالمتين للإنسان، ومع ذلك فإنه يستحق أن تُذرَف الدموع عليه في كل مرة تُروَى فيها سيرته على الطبلة أو الناي.

“وهو فيه ميت يتلفت وراه؟!

فيه ميت في الدنيا شايف اللي وراه؟!

الميت بيفضل ماشي .. ماشي، ما يرجعشي، وما حدش يشوفه بعد كده، ويغيب عن البيوت، يغيب .. يغيب”.

من مسرحية شفيقة ومتولي

لا تكمن قيمة شوقي عبد الحكيم في شغفه بالأساطير والملاحم والسير الشعبية المصرية والعربية، أو في قدرته على صياغة حكاياته التي استلهمها من وحيها بكل ما لها من قيمة فنية- فقط؛ بل في استيعابه لأهمية التراث الشعبي المحكي، وكونه هو المستودع للخبرات والمعارف الإنسانية الجماعية الشعبية، والمصدر الحي الذي يدفع إلى البناء العقلي والوجداني لأجيال الجماعة الشعبية العربية المبدعة فيسهم كجزء مهم من منظومة الثقافة الشعبية في تكوينها إنسانيًّا.

وبالتالي فإن محاولة شوقي عبد الحكيم.. وضع موسوعة للأساطير العربية، أو سعيه لتوضيح دور اليهود في تدوين التراث العربي السامي وحفظ التراث العبري من الضياع كجزء من تراث المنطقة العربية بأكملها جعلته من أهم الباحثين العروبيين (المنتمين للثقافة والحضارة العربية)، فإذا به يجمع بين مهارة البحث العلمي وأدوات الباحث الاجتماعي المتميز، وبين موهبة الأديب القادر على استنباط فلسفته الخاصة من وحي ذلك التراث.

ومع ذلك فإنه لا يتسنى الآن لأحد أن يقترب أكثر من شوقي عبد الحكيم الإنسان عبر الاستماع إلى حوار أجري معه في الإذاعة، أو مشاهدة لقاء تحدث من خلاله على شاشة التلفزيون؛ وبالتالي لا نملك سوى إحياء ذكراه من خلال إعادة قراءة إنتاجه العلمي والأدبي والمسرحي.

نعيمة (في نهاية مسرحية حسن ونعيمة لشوقي عبد الحكيم): “السكة إننا نمشي وما نبصش لورا، للميِّتين اللى ورانا، ما نسمعشي كل اللي قالوه ونقول ده نصيب ومكتوب، ونسكت ع الشر، نمشي من جنب الحيطان، ونداري على بعض، نداري اللي جوانا .. وأنا ما أقدرشي أعيش معاكم ولا مع الميِّتين، أحضن الشر بإيديَّه وأقول ده مكتوب!”.

المراجع:

  • محمد مصطفى بدوي، المسرح العربي الحديث في مصر، مترجم، المركز القومي للترجمة (2692)، ط1، القاهرة، 2016م، ص392-394.
  • صلاح الراوي، السيرة الهلالية بين الشفاهية والتدوين- دراسة تمهيدية في عزيزة ويونس، مجلة أدب ونقد، العدد (11)، فبراير 1985، ص
  • شوقي عبد الحكيم، حقيقة الدور اليهودي في تراث المنطقة، مجلة فكر وفن، العدد (1)، أكتوبر 1995، ص
  • شوقي عبد الحكيم، مدخل لدراسة الفولكلور والأساطير العربية، مؤسسة هنداوي،

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock