لم تكن دعوة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، لنظيره الجزائري أحمد العطاف، مجرد دعوة لزيارة عادية إلى واشنطن، خلال الأيام القليلة الماضية، من جانب مسئول السياسية الخارجية الأمريكي، بقدر ما كانت تحمل عددًا من الملفات المتداخلة بين واشنطن والجزائر، منها ما يتعلق بالأبعاد الإقليمية في شمال ووسط أفريقيا؛ خاصة بعد الانقلاب العسكري في النيجر؛ ومنها ما يختص بالأبعاد الاقتصادية والتجارية التي تأتي، بالنسبة إلى الجزائر، في مرتبة متقدمة.
واللافت، أن الدعوة الأمريكية للمسئول الجزائري، وإن كانت أيضا تأتي في سياق التطورات العالمية؛ وخاصة ما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية – فإنها تطرح معها تساؤلات متعددة، منها: هل هي زيارة عادية، لمجرد تعزيز التعاون بين الجانبين، أم أن لها دلالات أخرى؟ خاصة في إطار ما سُمّي بـ”الحوار الاستراتيجي” بين الجانبين؛ والأهم.. ما تحمله الزيارة من دوافع جزائرية، للتحرك غربا في هذا التوقيت، خاصة أنها تأتي بعد زيارتين للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى كل من روسيا والصين؟
عديدة هي الدوافع التي تحملها زيارة العطاف إلى واشنطن، سواء منها الخاص بالحوار الاستراتيجي، والتعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، بين الجزائر والولايات المتحدة أو ما يتعلق بملفات الأمن الإقليمي بعد انقلاب النيجر؛ فضلا عن ملف الصحراء الغربية الذي يأتي في مقدمة الاهتمامات لدى الإدارة الجزائرية.
ومن بين الدوافع التي تستند إليها زيارة العطاف إلى واشنطن، تلك الخاصة بالحوار الاستراتيجي الجزائري الأمريكي، وما ينطوي عليه من ملفات اقتصادية وأمنية.. لعل أهمها ما يلي:
أولًا: عقد الدورة السادسة للحوار الاستراتيجي؛ إذ يتناوب البلدان سنويا، استضافة الحوار الاستراتيجي بين الدولتين. ففي العام الماضي، عُقدت الدورة الخامسة للحوار، برئاسة نائبة وزير الخارجية الأمريكي، مع وزير الخارجية الجزائري آنذاك رمطان لعمامرة، بالعاصمة الجزائر.
ومع اختتام الدورة السادسة للحوار للعام الحالي، أثناء زيارة العطاف إلى واشنطن، والتي تأتي في ظل أوضاع إقليمية ودولية تتسم باستقطاب حاد؛ يُنتظر البدء في التحضير لمنتدى الأعمال الجزائري الأمريكي، الذي يجمع الشركات الكبرى ورجال الأعمال، الذي تُريد من خلاله الجزائر استقطاب المزيد من “الرساميل” الأمريكية، في ظل قانون الاستثمار الجديد، الذي اعتمد خلال العام الماضي.
ثانيًا: تطوير علاقات التعاون في ملف الطاقة؛ فرغم الخلاف الحاد بين الجزائر والولايات المتحدة، بشأن العلاقات الجزائرية مع روسيا، فضلا عن ملف الصحراء الغربية؛ يأتي ملف الطاقة ليُمثل عنصرا مساعدا على التوازن في العلاقات الجزائرية الأمريكية، من منظور الدور الجزائري في تغطية الطلب الأوروبي خصوصًا، على مصادر بديلة عن الغاز الروسي.
وضمن هذا الملف، تستهدف الجزائر تطوير التعاون مع الشركات الأمريكية العاملة في مجال الطاقة؛ وبحسب وزير الخارجية الجزائري، فإن اتفاقًا مع “أكسيدنتال”، وآخر قيد التشاور مع “شفرون” و”إكسون موبيل”، وهي الشركات النفطية الكبرى في الولايات المتحدة. جاء ذلك خلال لقاء عطاف مع رئيس المجموعة البرلمانية الأمريكية للصداقة مع الجزائر، النائب تروي نالس، والاتفاق على عقد ندوة بشأن التعاون الجزائري الأمريكي في مجال الطاقة، قريبا في واشنطن.
ثالثًا: تنمية التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري؛: حيث تسعى الجزائر، بعد عقدها شراكات استراتيجية مع روسيا والصين، إلى عقد شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة، بخصوص المجالات الاقتصادية والتبادل التجاري. وكانت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، المُكلفة بالمنظمات الدولية، ميشيل سيسون، قد حلت بالجزائر في زيارة عمل، والتقت بوزير الخارجية أحمد العطاف، في يوليو الماضي، لأجل التحضير لعقد هذه الشراكة.
والملاحظ، أن الجزائر تحاول تنويع شراكاتها، بين شرق العالم وغربه، ولفت أنظار القوى الاقتصادية الكبرى لقضية الاستثمار في البلاد، خاصة مع تأكيد الجزائر على “التسهيلات التي أقرها قانون الاستثمار الجديد”.
أما بالنسبة إلى التبادل التجاري بين الجزائر والولايات المتحدة، فيصل إلى نحو 5 مليارات دولار، فيما تقدر الاستثمارات بنحو 2.7 مليار دولار، وتتركز في قطاعات النفط والصناعات الصيدلانية وإنتاج الكهرباء والتكنولوجيات الحديثة، بحسب وزارة التجارة وترقية الصادرات الجزائرية، في 23 يوليو الماضي.
لم تقتصر زيارة واشنطن، من جانب مسئول السياسة الخارجية الجزائري، لتقف عند حدود الأبعاد الاقتصادية، بل تضمنت أيضا بعض جوانب الأمن الإقليمي؛ وفي مقدمتها: ملف الانقلاب العسكري في النيجر، والرفض الجزائري لأي تدخل عسكري في هذا البلد؛ فضلًا عن ملف الصحراء الغربية، الذي توليه الجزائر عناية خاصة.
أولًا: انقلاب النيجر وإشكاليات الأمن الإقليمي؛ إذ، يبدو التلاقي الواضح بين وجهتي النظر الجزائرية والأمريكية، بخصوص الأزمة في النيجر بعد انقلاب 26 يوليو الماضي؛ حيث الاتفاق على إدانة الانقلاب منذ البداية، وفي الوقت نفسه الدعوة إلى اعتماد السُبل الدبلوماسية لأجل العودة إلى الشرعية الدستورية في نيامي.
أيضًا، تتقاطع وجهتي النظر بشأن رفض استخدام القوة العسكرية لإنهاء الانقلاب، وهو ما يُناقض الموقف الفرنسي، ومواقف بعض الدول الأعضاء في الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”.
وإضافة إلى ملف النيجر، تأتي ملفات التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، ومنها داعش، الذي يُسيطر على المثلث الحدودي بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة؛ وهي الملفات التي يمكن أن تُمثل حافزا للتعاون الأمريكي الجزائري، خاصة بعد رحيل القوات الفرنسية من بعض دول الساحل، مثل مالي وبوركينا فاسو، ورفض تواجدها حاليا من جانب المجلس العسكري في النيجر.
ثانيًا: التفاهمات بشأن ملف الصحراء الغربية؛ فقد أكد وزير الخارجية الأمريكي، في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي “X”، اتفاق بلاده مع الجزائر على “الدعم الكامل للعملية السياسية للأمم المتحدة”، بالنسبة لقضية الصحراء الغربية. ويُمثل ملف الصحراء الغربية أولوية متقدمة للإدارة الجزائرية، خاصة في ظل اختلافها مع جارتها المغرب في هذا الشأن.
وكان ملف الصحراء أحد الأسباب الرئيسة في توتر العلاقات بين الجزائر والولايات المتحدة، منذ أن اعترفت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بـ”السيادة المغربية على الصحراء”، وهو الموقف الذي لا تزال تقاومه الجزائر الداعمة لجبهة البوليساريو، خاصة أن إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، لم تنقض هذا الاعتراف الأمريكي.
في هذا السياق، يُمكن القول بأن زيارة وزير الخارجية الجزائري، أحمد العطاف، إلى واشنطن، تستند إلى عدة دوافع في مقدمتها التأكيد على استمرار دورات الحوار الاستراتيجي بين الجزائر والولايات المتحدة؛ هذا فضلًا عن “محاولة تهدئة” التوتر في العلاقات الجزائرية الأمريكية؛ خاصة أن هذه العلاقات تخضع لسياقات سياسية وضعتها في موقع الاضطراب والتوتر، ليس فقط بسبب موقف الإدارة الأمريكية من ملف الصحراء الغربية؛ ولكن أيضا استنادًا إلى توظيف الجزائر لورقة الغاز؛ وسيلةً للضغط على الجانب الأوروبي، إضافة إلى القرب السياسي من المحور الشرقي، حيث روسيا والصين.