رؤى

الموال الشعبي القصصي بين عواقب الجمود وعوائق التجديد

عشوائية الضجيج.. لا يمكن أن تكون مصحوبة بالمعنى المغذي للوعي، أو المحفز لأي تفكير؛ ولذلك تظل البشرية بخير مادامت تستقي المعنى – حتى لو كان ذلك المعنى من الضجيج والضوضاء. أي أنه هناك بون شاسع بين أنواع الضوضاء ودرجات الضجيج، وبين العشوائية القادرة على إصابة كل شيء دون تمهل أو إمهال، فما بالنا بعشوائية الضجيج؟!

ولولا ذلك النفور الفطري من الضوضاء – بصفة عامة- ومن الضجيج العشوائي – بصفة خاصة- لما كان هناك أي سعي حثيث سواء كان بشكل فردي أم بشكل جماعي على كلا المستويين الشعبي والرسمي، من أجل محاولة تهذيب الذوق العام والارتقاء بذائقة الشعوب السمعية والبصرية؛ وهذا الأمر لن يحدث  دون اعتناء جاد بالتعليم أو اهتمام واعٍ بالثقافة.

وها هي ثقافة النخبة في منطقتنا العربية؛ قد باتت متمسكة بروافدها غير العربية، بعدما ألفت الاستعلاء على الثقافة الشعبية؛ فإذا بها لا تنفك عن التباهي بها، في تكبر واضح على كل ثقافة عربية أو ثقافة شعبية، تلتصق بعامة الناس وتعبر عنهم وعن مخزون تجاربهم وتفاعلاتهم الحياتية. ومع كل تهميش للغة العربية تعليميًّا وإعلاميًّا، ومع كل استعلاء على العوام وتقزيم للطبقة الوسطى في المجتمعات الرأسمالية الجشعة – لابد أن يسود التجاهل لكل ما يحفز على الاعتناء بالتراث الشعبي، الذي يحمل بين ثناياه ما اختزنته الذاكرة الشعبية؛ تأكيدًا لوجودها وترسيخًا لهُويتها.

ولكن هذا البناء الثقافي الواهي المعتمد على اقتطاف ثمار ثقافات دخيلة، والقائم على اقتلاع ثقافات أصلية وأصيلة من جذورها أو إهمال رعاية أشجارها دون أدنى حرص على جني ثمار جديدة لها-  لن يكون إلَّا بناءً هشًّا ضعيفًا، غير قابل للبقاء طويلا.. ولذلك فإن الاعتناء بفنون التراث الشعبي كجزء من الثقافة الشعبية لا يحافظ فقط على ذاكرة الشعوب، ولكنه أيضًا يضخ فيها نفحات التجديد المستمر والضروري لتراثها، والذي لن يؤتي ثماره إذا لم تجدد هي حياتها، فما بالنا إذا أصاب الركود تفاعلاتها اليومية في شتى مناحي الحياة، أو إذا استسلمت نهائيًّا للجمود في حركتها وإنتاجها؟!

ولنبدأ إذن بإلقاء نظرة سريعة على الثقافة الشعبية، وبالأخص على ما آل إليه الموروث الشعبي المنطوق في منطقتنا العربية بصفة عامة وفي مصر تحديدًا. فإذا ما تأملنا –على سبيل المثال– حال الموال الشعبي المصري كأحد أبرز الفنون القولية الشعبية، سنجد أن ذلك المأثور القولي والخطاب الشعري المُغنَّى يعبر عن منظومة ثقافية كاملة؛ فهو لا يعتبر فقط لسان حال الجماعة الشعبية، بل إنه أيضًا الترجمة الصادقة لأحوالها وأوضاعها وخبراتها الحياتية، وهو كذلك الصيغة التعبيرية الموحية بما تختزنه في ضمائرها من قيم ومفاهيم، وما تكنه في صدورها من آهات وأنين؛ ومن ثم فهو يحمل بين ثنايا كلماته جزءًا أصيلًا من الشخصية المصرية التي تكونت عبر التاريخ فتأثرت وأثَّرت، والآن عليها إما أن تحافظ على هُويتها المميزة لها أو أن تستسلم لطمس معالمها، حتى تذبل وتنضب وتندثر.

يتميز الأدب الشعبي الشفهي كعنصر من عناصر الثقافة الشعبية أو الموروث الشعبي أو ما يطلق عليه “الفلكلور”، بأنه جزء من الثقافة الإنسانية ككل. وبوصفه أحد الأشكال التعبيرية المنطوقة التي تختزنها الذاكرة الشعبية، فإنه يحفظ بشكل شعوري أو لا شعوري إلى أن يتجسد من خلال السرديات الشفهية كالحكايات والقصص والأساطير والخرافات والحكم والأمثال، فماذا إذا أصاب الجمود تلك التعبيرات المنطوقة، ثم أدى ذلك بمرور الوقت إلى نسيانها وتجاهلها واندثارها؟!

إن كل موال قصصي يحوي رسالة يبثها الراوي أو المؤدي أو منشد الموال، ويحتوي ذلك الخطاب الشعري من خلال السرد القصصي للأحداث على دلالات وثيقة الصلة بواقع الحياة الشعبية بما فيها من عادات وتقاليد وأعراف ومفاهيم، وهكذا فإن المواويل الشعبية القصصية، لا تهدف إلى التسلية وفقط؛ بل إلى ترسيخ معنى ما في ذهن المتلقي وثيق الصلة بواقعه، كما أنها قد تقدم له العظة والعبرة، أو تبوح على الملأ بما يجول في صدره من رغبات مكبوتة وأفكار موءودة.

أي أن الموال الشعبي لن يظل حاضرًا على الساحة الفنية بدون مؤدٍّ يجيده ويبتكر فيه ويعمل على تجديده، أو بدون متلقٍ ومستمعٍ يهوَى الاستماع إليه ويعي قيمته ويجد له أثرًا في نفسه.

ومن بين ألوان الموال الشعبي ما هو مرتبط بالطبيعة وبالحب والغزل؛ ولذلك اقترن باللون الأخضر، بينما يقترن الموال الأحمر بالمآسي وأحيانًا بالدماء.

ولا يرتبط الموال القصصي بعدد معين من السطور أو بنمط محدد للقافية، ولكنه شكل شعري غنائي مُرسَل ومسترسِل. وبما أن الموال الشعبي بصفة عامة يعتمد على قدرة مؤديه على الارتجال، فإن الموال الشعبي القصصي ليست لقصصه وحكاياته صيغة واحدة ثابتة، وإن اتفقت الصيغ في ذات المضمون الروائي إلَّا أن المعالجات تختلف حسب الزاوية التي يتناولها الراوي.

وفي مصر ترتبط أشهر المواويل الشعبية القصصية الطويلة بثنائية الرجل المرأة مثل مواويل: حسن ونعيمة، وياسين وبهية، وأيوب وناعسة، وشفيقة ومتولي، ويعتبر موال حسن ونعيمة هو الأشهر من بين مواويل قصص الحب المرتبطة بالريف المصري.

وهناك أيضًا مواويل قصصية أخرى تتناول قصة الحب ولكن بشكل رمزي مثل موال الطير؛ إذ أن العلاقة بين الرجل والمرأة تلعب دورًا بارزًا في الأدب الشعبي؛ وخاصة الموال الذي يُعبّر عن الكثير من أحوال المحبين من دلال وهجر وصد وشوق وعشق وشكوى، ووصف للمحبوب غالبًا ما يكون بشكل رمزي مستتر.

ومن أهم ما يميز الموال بوصفه لونا غنائيا شعبيا، ولونا من الأدب السردي الشعبي، أنه يُظهر مهارات المغني، ومساحة صوته، وقدرته على التطريب والارتجال، ومدى براعته في استعراض الانتقالات اللحنية؛ ولذلك فإن اختفاء أصحاب الأصوات القوية والطربية من على الساحة الغنائية قد ساهم في انحسار الموال الشعبي وعدم انتشاره على مستوى أوسع في الآونة الأخيرة، مثلما كان الحال في الماضي.

ناهيك عن غزو الضجيج العشوائي لحياة الناس، ومن ثم للموسيقى والألحان؛ ففي ظل انتشار أغاني المهرجانات والاستعانة فيها بالأرتام السريعة البعيدة كل البعد عن الروح الشرقية، والمليئة كذلك بالمعاني السطحية والألفاظ والحركات البذيئة، والمتدنية في قيمتها الفنية، والمفتقدة لعذوبة الألحان الشجية، كان لابد من تراجع فن الموال الشعبي – شأنه شأن بقية الفنون الشعبية القولية أو المنطوقة، فلم يعد هناك أي التفات شعبي إلى الحكايات والسير الشعبية الموروثة، أو المأثورات والأقوال السائدة والأمثال والمدائح إلَّا في مواسم الموالد الشعبية أو خلال ليالي شهر رمضان، وبالأخص في الأحياء الشعبية وفي قرى الريف والصعيد.

ولذلك فإن الموال الشعبي القصصي كأحد فنون التراث الريفي المصري قد بات مهدَّدًا بالانحسار والتقلص بصفة عامة، خاصة بعدما فقد الكثير من رواده الذين كانت تعتني بهم الإذاعة ووسائل الإعلام فيما مضى، بينما الآن لا يوجد أي اهتمام بتبني مواهب جديدة تحل محل فنانين مثل: محمد عبد المطلب، وشفيق جلال، ومحمد طه، ومتقال، ومحمد رشدي، ومحمد العزبي، وفنانات مثل: خضرة محمد خضر، وفاطمة سرحان، وفاطمة عيد.

وفي ظل عدم الالتفات بشكل رسمي إلى تنمية هذا اللون الفني من الغناء الشعبي والريفي أو إلى تطويره مضمونًا وشكلًا بما يتناسب مع التطور التقني الحديث، وفي ظل عدم رعاية مواهب شابة جديدة تتولى مسئولية إبداع ما هو جديد، فلن يلحق بهذا الإرث الفني الشعبي سوى الجمود المؤدي إلى الاندثار. فغياب الموال الشعبي خاصة القصصي عن الساحة الغنائية بكل ما فيه من إبداع وحيوية يفرضها نظمه المرتجل، وبكل ما يميزه من عمق وجمال وجودة سيؤدي حتمًا إلى إهمال جزء مهم من التراث الشعبي – وخاصة الريفي منه، وذلك الإهمال المصحوب بالجمود سيفضي إلى الاندثار التدريجي لواحد من أهم فنون التراث الشعبي المصري الذي من الأحرى له أن يتجدد تلقائيًّا، ولكن إذا لم يحدث ذلك فلا بأس من مد يد العون لإنقاذ ما تبقى منه.

فكيف يمكن للموال الشعبي القصصي أن يستعيد جمهوره العريض دون اهتمام رسمي به؟ أو دون سعي إلى البحث عن وسائل تجديده؛ كي يكون جاذبًا لعدد أكبر وفئات أكثر من الناس؟ أو دون إتاحة الفرصة لمبدعين جدد يستنبطون منه أفكارًا جديدة، وتكون لهم رؤيتهم العصرية التي يصيغونها بكل حرية؟ إن ذلك لن يتحقق دون وجود وعي بأهمية الثقافة الشعبية بصفة عامة والأدب الشعبي بصفة خاصة، أو دون حرص كافٍ من كافة طبقات الشعب على المشاركة الشعبية الواعية بشكلٍ فعال في الحياة العامة.

وما دام الاهتمام بمنابع الثقافة لا ينفصل عن التعليم والارتقاء بأساليبه من أجل تحقيق أية نهضة منشودة، فلابد إذن من المقاومة الفردية والجماعية لكل ما يدعو إلى العبثية وفقدان المعنى قبل أن يفضي ذلك إلى التشتت والتلاشي، ومن ثم لابد من عدم الاستكانة إلى الفراغ والعدمية من خلال المقاومة المستمرة للتفريغ والإفراغ العقلي والروحي ليس من أجل الحفاظ على الوجود المادي للشعوب فحسب، بل من أجل تأكيد كينونة الإنسان وهُويته الفردية المميزة له، والتي تبرهن على ارتقائه عن غيره من المخلوقات المشترِكة معه في الوجود والمتفوق هو عليها في قدرته على الفعل المغير للواقع إذا بات لا يقبله أو يرضى عنه.

فهؤلاء المبدعون الذين أبدعوا شتى أنواع الفنون وخلَّفوا وراءهم ما يشهد على مدى تفاعلهم مع بيئاتهم التي عاشوا فيها، فذابوا وسط أهلهم ومجتمعاتهم إلى أن صاروا هم لسان حال الجموع، هل سيكون عسيرًا على أبنائهم وأحفادهم أن يحافظوا على إرثهم الثقافي، أو أن يضعوا بصمتهم الخاصة بهم والمعبرة عنهم وعن ثقافتهم وموروثاتهم؟ وهل سيكون بمقدورهم أن يتحرروا من قيود النظام العالمي الجديد الذي يهدف إلى قولبة البشر في قوالب صماء بلا روح أو ضمير، وإلى إلغاء عقولهم ومسخ شخصياتهم الحرة المستقلة، وإلى طمس معالم موروثهم الحضاري؟!

إن الاستسلام إلى كل غزو ثقافي سيمحو قطعًا الهُوية المستقلة للشعوب، وهذا النوع من التدمير المعنوي يفوق في أثره أي قتل مادي لأنه يمتد لأجيال متلاحقة دون أدنى أمل في التخلص من قبضته إلَّا عن طريق التمسك الشعبي بمقومات الوجود الذاتي الفعَّال فكريًّا وحركيًّا وإنتاجيًّا. فلن يقاوم أية ثقافة استعمارية دخيلة إلَّا ذلك التمسك بالموروثات الثقافية والحضارية الأصيلة، والحفاظ على أهم ما فيها، والعمل على الارتقاء بعناصرها وتجديد قوالبها وتنمية مضامينها بإبداع ما هو جديد وعدم الاكتفاء بإنجازات الماضي التليد.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock