جاء الإعلان عن تأسيس “مجلس الدول العربية والأفريقية المُطلة على البحر الأحمر وخليج عدن”، الاثنين 6 يناير 2020، في الرياض، في واحدة من أصعب الفترات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، في ظل التصعيد الذي تقوم به الدول الإقليمية التوسعية، إيران وتركيا، كواحدة من أهم المحاولات دعمًا لأمن واستقرار البحر الأحمر وخليج عدن، كممرين مائيين لهما تأثير كبير على حركة التجارة الدولية.
ففي ظل التصعيد الإيراني، عقب مقتل قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في غارة أمريكية؛ وفي سياق ما تقوم به تركيا من محاولات للتصعيد والتوسع في الشمال من البحر الأحمر، وتحديدًا في منطقة شرق المتوسط، جاء تأسيس “المجلس”، الذي يضم كلاً من السعودية ومصر والسودان وجيبوتي والصومال واليمن والأردن، إضافة إلى إريتريا، في إطار سعي هذه الدول العربية السبع، ومعها إريتريا، لوضع رؤية مشتركة لأمن هذا البحر، بوصفها صاحبة السواحل الأطول على البحر الأحمر ذلك الممر المائي الاستراتيجي؛ حيث يُعتبر وبحق، من حيث الدول المشاطئة له، “بحيرة عربية”.
بحيرة عربية
يأتي توصيف البحر الأحمر بكونه “بحيرة عربية”، دولية، من حيث إجمالي عدد السكان “العرب” الذين يعيشون في الدول العربية السبع المشاطئة له، والذي يصل إلى نحو 232 مليون نسمة؛ بل، وتتوقع الأمم المتحدة أن يتضاعف عدد السكان في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن بحلول منتصف القرن الواحد والعشرين الحالي.
أضف إلى ذلك، أن البحر الأحمر، هذا الممر المائي الضيق والطويل، الذي يفصل بين قارتي آسيا وأفريقيا، ويقسم العالم العربي إلى قسمين آسيوي وأفريقي؛ حيث يمتد طوليًا لمسافة 2350 كم، ويربط كلًا من بحر العرب عن طريق باب المندب، والبحر المتوسط عن طريق قناة السويس.. هذا البحر، يُعد عاملًا مهمًا له ثقله في التطورات السياسية والعسكرية، والاقتصادية أيضًا، في المنطقة العربية بأكملها.
يكفي أن نلاحظ، هنا، أن الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية السبع المشاطئة له، يتجاوز تريليونًا ومائة مليار دولار؛ في حين يتوقع البنك الدولي أن يتجاوز هذا الناتج 6 تريليونات دولار بحلول عام 2050. كما أن قربه من أعلى مخزون نفطي في العالم، حيث يوجد نحو 70 % من احتياطي النفط العالمي في منطقة الخليج العربي، القريب من البحر الأحمر، زاد من أهمية هذه البحيرة العربية، كون البحر الأحمر الطريق المختصر للوصول إلى هذا المخزون.
أهمية جيوسياسية
في هذا الإطار، يمكن اعتبار البحر الأحمر وخليج عدن أحد الشرايين الرئيسة للتجارة الدولية؛ ليس لأن النسبة الأكبر من صادرات النفط العربي في الخليج تمر عبره فحسب؛ وإنما لكون حركة التجارة بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وكذلك أمريكا، تمر من خلاله أيضًا؛ بما له من سواحل طويلة، وموانئ تجارية وصناعية مهمة تسهم في حركة التجارة على المستويين الإقليمي والدولي؛ مثل ميناء جدة وينبع والعقبة والسويس وبورسودان والحديدة وغيرها؛ إضافة إلى العائد الاقتصادي الذي توفره هذه الموانئ لتلك الدول، عبر ما تقدمه من خدمات وتسهيلات تجارية للناقلات التي تمر في البحر الأحمر.
بل، وتتبدى الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر، كذلك عبر ما يمر به من بضائع وسلع تصل قيمتها إلى نحو 2.5 تريليون دولار سنويًا، تُمثل نحو 13 % من التجارة العالمية.
وتبعًا لهذه الأهمية الاستراتيجية ولدت فكرة إنشاء “كيان” يجمع الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن؛ حيث عُقِد أول اجتماع على مستوى كبار مسؤولي الدول المشاطئة له، في 11 ديسمبر 2017 بالقاهرة، وهو الاجتماع الذي شدد على أهمية إيجاد آلية للتعاون والتنسيق في مجالات من بينها الأمنية والاقتصادية.
ثم، جاء الإعلان عن إنشاء هذا “التكتل”، عبر الاجتماع الثاني الذي استضافته الرياض، في 11 ديسمبر 2018، الذي كان قد ضم وزراء خارجية الدول العربية السبع المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن. ثم، تم تتويج هذه الخطوات بالإعلان عن تأسيس “مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن”؛ بما يعني التأكيد على أن “المجلس” سوف يُساهم في منع أي قوة خارجية من أن تلعب دورًا سلبيًا في هذه المنطقة التي تتمتع بحساسية استراتيجية خاصة.
مخاطر محتملة
لعل ما يشير إلى هذه الحساسية الاستراتيجية، أن المخاطر المحتملة في حوض البحر الأحمر، وخليج عدن، كانت قد تزايدت خلال السنوات الماضية، بدءًا من تنامي ظاهرة القرصنة، قبل نحو عقد من الزمان، ثم خطر الجماعات الإرهابية، وصولًا إلى بروز تغولات تركية وإيرانية في السنوات الأخيرة، في محاولة من كل منهما لاستغلال الأوضاع الداخلية الهشة لبعض الدول، لإيجاد موطئ قدم لها في هذه المنطقة الحيوية.
فقد تنوعت الأساليب الإيرانية في استهداف أمن البحر الأحمر وخليج عدن؛ حيث سبق للميليشيات الحوثية في اليمن أن استهدفت بعض السفن التجارية في البحر الأحمر بالقرب من مضيق باب المندب، المضيق الاستراتيجي الأهم في العالم، وذلك تنفيذًا لتوجيهات طهران، التي هددت هي الأخرى بإغلاق مضيق هرمز، بهدف الإضرار بتجارة تصدير النفط من منطقة الخليج العربية.
أما تركيا فقد بدأت بتنفيذ مشاريع عدة في السودان، بعد الاتفاق المُبرم بينها وبين نظام الرئيس السابق عمر البشير، منها تطوير ميناء وجزيرة سواكن التي تقع في البحر الأحمر، حيث تضمن الاتفاق إعادة تأهيلها وإدارتها لفترة زمنية لم يُعلن عنها؛ هذا فضلًا عما تقوم به من مشروعات أخرى في الصومال، وفي بعض الدول في منطقة القرن الأفريقي.
بل، إن الملاحظ هو احتمال تزايد التهديد التركي لمنطقة البحر الأحمر وخليج عدن، في السياق العام لما تقوم به أنقرة من زيادة التوتر في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، خصوصًا بعد مذكرتي التفاهم التي تم التوقيع عليهما بين تركيا وحكومة السراج في ليبيا، فضلًا عن مذكرة التفاهم مع حكومة الدبيبة، بخصوص التنقيب عن النفط، بما يمكن أن يُلقي بظلال “غير محمودة” على الأمن والاستقرار في حوض البحر الأحمر عمومًا.
في هذا الإطار، إطار المخاطر المحتملة التي تتهدد منطقة البحر الأحمر وخليج عدن، تتبدى أهمية مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن؛ من منظور أن هذا “المجلس” هو واقعيًا تعبير عن رؤية استراتيجية لبحيرة “عربية دولية”.
ولكن..
أين هذا المجلس على امتداد السنوات الماضية(؟)؛ ولماذا غاب عن التفاعل الجيوسياسي، مع كافة الأحداث الدولية والإقليمية، بل والعربية، على امتداد تلك السنوات(؟). ثم، ما هي الاحتمالات المستقبلية لاستمراره، في إطار المشروعات الجيواقتصادية الكبرى التي تُحيط بالمنطقة، مثل “ممر البهارات” و”الحزام والطريق”.. وغيرها(؟).