منذ استقلال إريتريا عنها، في عام 1993، الذي شكل نقطة تحول استراتيجي في السياسة الإثيوبية- ترى أديس أبابا أنه لا يوجد سبب لأن تظل “دولة حبيسة”؛ خاصة أن افتقادها لشواطئ البحر الأحمر يحرمها من بعض المميزات والمكتسبات المهمة، التي تحظى بها دول القرن الأفريقي.
وقد شهدت السنوات الأخيرة تطورات كبيرة، في سعي أديس أبابا لإنهاء عزلتها البحرية، إلى الدرجة التي هدد فيها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، باستخدام القوة للحصول على منفذ بحري.
واللافت أن محاولات أديس أبابا لامتلاك قوات بحرية حديثة، رغم كونها دولة حبيسة لا تعكس الطموح الإقليمي الإثيوبي للإطلالة على سواحل البحر الأحمر فحسب؛ بل الدافع الإثيوبي أيضا للمطالبة، منذ فبراير 2022، بالانضمام إلى منتدى البحر الأحمر، الذي كان قد تأسس في 6 يناير 2020، وبالإضافة إلى مجموعة من العوامل الاستراتيجية التي تستند إليها أديس أبابا، بخصوص محاولاتها في تجاوز الإشكاليات التي تفرضها عليها وضعيتها الجغرافية.
عقب صعوده إلى السلطة قبل خمس سنوات، أعاد آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، إحياء طموح أديس أبابا لامتلاك منفذ بحري على سواحل البحر الأحمر؛ حيث تعهّد في خطابه الأول بإعادة بناء سلاح البحرية الإثيوبية، التي فُكّكت في عام 1996، وعرضت أصولها للبيع، بعد ثلاثة أعوام من استقلال إريتريا.
وكما يبدو، فإن ثمة مجموعة من العوامل الاستراتيجية المتعددة والمتشابكة في ما بينها، التي تستند إليها إثيوبيا في بناء قوة بحرية خاصة بها، رغم كونها “دولة حبيسة”.. لعل أهمها ما يلي:
أولًا: تنويع المنافذ في البحر الأحمر
ويأتي هذا الدافع ضمن أهم العوامل التي تستند إليها أديس أبابا، في محاولة إحياء القوة البحرية الإثيوبية؛ إذ إن اعتمادها المتزايد على جيبوتي لأجل الوصول إلى البحر الأحمر، وبروز هذه الأخيرة بوصفها شريكا، من حيث استحواذها على أكثر من 75% من صادرات وواردات إثيوبيا؛ كل ذلك ساهم في دفع أديس أبابا إلى البحث عن خيارات بديلة.
ضمن هذه الخيارات، نحو تحقيق الطموحات البحرية الإثيوبية، تأتي محاولة تأمين صفقات مع بعض دول الجوار، مثل السودان وصوماليا لاند، للوصول إلى بورتسودان وحصة في ميناء بربرة، على التوالي، بهدف تقليل الاعتماد على ميناء واحد، وخفض رسوم الموانئ.
وبالتالي.. فمن شأن القوة البحرية الإثيوبية، بواصفها عاملا استراتيجيا لدى أديس أبابا، تسهيل حماية هذه المسارات التجارية المتنوعة؛ وفي الوقت نفسه ضمان الوصول إلى الموانئ والمنافذ البحرية الحيوية في منطقة القرن الأفريقي.
ثانيًا: التحول إلى مركز اقتصادي إقليمي
ففي إطار السعي الإثيوبي إلى تنمية التجارة الخارجية، والتحول إلى مركز إقليمي في منطقة القرن الأفريقي، تحاول أديس أبابا أن تجد لها موطئ قدم في غالبية الموانئ البحرية في المنطقة؛ وهو الأمر الذي يرتكز إلى محاولة تقليل الاعتماد على ميناء جيبوتي، الذي يستحوذ على ثلاثة أرباع تجارة إثيوبيا مع العالم الخارجي.
ولأنها تستهدف أن تصبح قوة إقليمية، تحظى بموقع استراتيجي بالنسبة إلى طرق التجارة والشحن والنقل البحري، في القرن الأفريقي؛ تسعى إثيوبيا لامتلاك حصص مختلفة في الموانئ البحرية على ساحل البحر الأحمر، بهدف تسهيل نقل تجارتها وتجاوز التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد، بفعل إشكاليات الوضعية الجغرافية؛ لاسيما في ظل تنامي المخاوف لديها تجاه تزاحم القوى الدولية في جيبوتي، بما يُمثله ذلك من تهديد للنفوذ الإثيوبي في المنطقة. لذا كان التوجه إلى بناء قوة بحرية، تكون قادرة على حماية هذه المصالح المتشابكة.
ثالثًا: توسيع النفوذ في القرن الأفريقي
فمنذ صعوده إلى السلطة، يبدو أن آبي أحمد لا يُريد الاعتراف بأن إثيوبيا دولة حبيسة؛ ويبدو أنه يُدرك أيضا صعوبة تقوية وتوسيع النفوذ الإقليمي لبلاده، دون الوصول إلى الموانئ البحرية في منطقة القرن الأفريقي؛ لذلك يُخطط لأن تصبح بلاده القوة الإقليمية الأقوى، في منطقة القرن الأفريقي؛ بما يجعل إثيوبيا مقصدًا للاستثمارات الأجنبية، وبوابة مهمة للقوى الكبرى إلى دول المنطقة وشرق أفريقيا، والعمق الأفريقي عموما.
ومن ثم.. تدرك إثيوبيا أن دول الجوار الإقليمي لها، وإن كانت تمتلك منافذ بحرية وسواحل على البحر الأحمر، لكنها لا تستغلها بسبب افتقارها للقدرات المالية واللوجستية؛ لذا شرعت في التعاون مع دول الجوار، من خلال بناء الممرات والطرق البرية التي تربط بينها، مثل خط السكك الحديدية الواصل بين أديس أبابا وميناء جيبوتي، بطول 750 كيلو متر بتمويل من الحكومة الصينية.
رابعًا: محاولة لعب دور في أمن البحر الأحمر
فمع القرب الجغرافي لإثيوبيا من سواحل البحر الأحمر، بمسافة لا تتجاوز 60 كيلو متر تقريبًا، تسعى إثيوبيا للانخراط في لعبة القوى بإقليم هذا الممر المائي الاستراتيجي، عبر محاولة التمركز على سواحله، وبناء قوة بحرية تكون ذراعا عسكريا لها، في حماية السفن الإثيوبية، البالغ عددها إحدى عشر سفينة تتمركز في البحر الأحمر.
وبالتالي، فإن إيجاد موطئ قدم على سواحل البحر الأحمر، وتأكيد التواجد الإثيوبي عبر قوة بحرية نافذة، يُمثل هدفا استراتيجيا لإثيوبيا، حيث يضمن لها وجود دائم عند مداخل البحر الأحمر الجنوبية.
ولعل هذا الهدف، في حال تحققه، يؤسس لها “الحق” في لعب دور في معادلة أمن البحر الأحمر، وصولًا إلى امتلاك قاعدة عسكرية بحرية إثيوبية، بالقرب من باب المندب، بحجة تعزيز التجارة الخارجية الإثيوبية مع العالم الخارجي؛ والدخول على خط حماية مرور التجارة الدولية والملاحة البحرية في البحر الأحمر، وهو ذلك الهدف الذي كان آبي أحمد قد عبّر عنه، عندما صرح، في فبراير 2022، بأن “أمن البحر الأحمر لا يتحقق دون مشاركة إثيوبيا”، في إشارة إلى تجاهل منتدى “البحر الأحمر وخليج عدن” لإثيوبيا.
في هذا السياق، يمكن القول بأن التحرك الإثيوبية لبناء أسطول بحري قوي، في محاولة لأن تصبح القوى الإقليمية الأقوى، في منطقة القرن الأفريقي، عند مداخل البحر الأحمر الجنوبية، بوصفه توجها جيوسياسيا- تنبني على ما نفذته أديس أبابا خلال السنوات الماضية، من إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة، لتعزيز استقرارها الداخلي، وتأمين حدودها، وتوفير ميناء يساعدها على نقل صادراتها إلى العالم.
بل، إن الحقول النفطية المكتشفة في مناطق بإثيوبيا، وأخرى في سواحل الصومال وحدوده البحرية مع كينيا، يدفع أديس أبابا بقوة نحو بناء قوة بحرية، تشارك في حماية تلك المناطق، لاسيما الواقعة في سواحل الصومال، الذي ليس لديه جيش قوي قادر على تولي مسئولية حماية هذه الثروة.
ومن المُرجح، أن تستطيع إثيوبيا بناء قاعدة عسكرية بحرية، في إحدى دول القرن الأفريقي المطلة على البحر الأحمر، مثل الصومال أو كينيا؛ كما يُحتمل أن تجد إثيوبيا موطئ قدم لها في جيبوتي، التي تستضيف العديد من القواعد العسكرية لقوى عظمى؛ إلا أن هذا الاحتمال ربما يكون بعيدا بسبب مخافة إثيوبيا من تأثير القوى الدولية الكبرى على جيبوتي، بعدم السماح لإثيوبيا ببناء قاعدة عسكرية على شواطئها.