بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عروبة 22
شهد العالم في الأسبوعين الأخيرين مجموعة من الأحداث أو الأزمات المحدودة التي ربما لم تلفت من الأصل نظر الكثير منا لكنها كشفت عن بنية تحتية جيو – استراتيجية كبرى ومخيفة.
هذه الحقائق الكبرى بما فيها ترتيبات أمنية وعسكرية تخفى عادة بعيدا عن الأنظار وتتحكم في توجيه مصائر العالم لا تحول لغو المهووسين بأن التاريخ عبارة عن مؤامرة إلى حقيقة ولكنها بالقطع تثبت أن المؤامرة جزء من التاريخ.
الغريب في الأمر أن كل هذه الترتيبات العابرة للقارات تمس بصورة أو أخرى المصالح العربية وتسعى لإعادة رسم خرائطها.. والغريب أيضا أن إسرائيل قاسم مشترك أعظم فيها.
أولى الأزمات كانت الأزمة الدبلوماسية بين الهند وكندا بعد اتهام الأخيرة الحكومة الهندية بقيام عناصر من مخابراتها باغتيال المنشق السيخي على الأراضي الكندية مؤخرا. ولإثبات صدقية اتهاماته أشار رئيس الوزراء إلى أن الأدلة على تورط نيودلهي لم تأت فحسب من المخابرات الكندية ولكن هي عبارة عن معلومات قُدّمت من مجموعة «العيون الخمسة» وهي مؤسسة استخبارية لتشارك معلومات التجسس تغطي العالم ويضم دول الأنجلو ساكسون الخمس وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا واستراليا ونيوزيلندا، وانضمت إليها لاحقا دول أخرى ولكن كطرف ثالث مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية والفلبين.. في مجموعة الـ 9 عيون ومجموعة الـ 14 عينا (المقصود بطرف ثالث أن عضويته لا تمنع الدول الخمس الأنجلو ساكسونية من التجسس عليه بينما هو محرم فيما بين الدول الخمسة).
وتنظر هذه الدول إلى نفسها كمجموعة متجانسة متفوقة ذات هوية واحدة سياسية -ثقافية وتزعم حتى أنها تنحدر من جذور عرقية شبه واحدة. ودعمت الدول الأنجلو -ساكسونية الرواية الكندية عن أن التورط الهندي في حادث الاغتيال ليس معلومات كندية فحسب بل هي معلومات متبادلة بين العيون الخمس. كشفت هذه الأزمة المحدودة عن عالم استخباري موازٍ لا يعرف عنه الكثير من الناس وأن هذا العالم مهمته الرئيسية هو استمرار هيمنة الولايات المتحدة والقطب الانجلو – ساكسوني والناتو والغرب عموما على النظام الدولي. هذه البنية التحتية الراسخة للاستخبارات قادرة على اعتراض وتحليل أي نوع من أنواع الاتصالات في العالم كله بما في ذلك اختراق أي نظام للحماية الأمنية الإلكترونية. ويحتوي التجمع الاستخباري على تقسيم عمل تتحكم فيه الجغرافيا. فيقع على كل دولة من الدول الخمس أن تراقب الحزام الجغرافي الأقرب إليها، ثم تشارك معلوماتها مع شريكاتها الأربع فيكون لكل منهم صورة تامة حتى عن أقصر محادثة هاتف في أبعد قرية في العالم. بنى التجمع الاستخباري آلية قيادية فيها مجلس للمراجعة يتم عبره استخلاص النتائج وطرح بدائل سياسية وعسكرية وثقافية واقتصادية وحملات إعلامية ممنهجة وتوزيع الأدوار ويجري تكليف طرف منهم «الأنسب أو الأقرب» بتنفيذ عملية سرية أو إثارة موضوعها في العلن إذا استلزم الأمر.
ومن المثير للدهشة أن الشرق الأوسط يكاد يكون المنطقة الوحيدة في العالم الذي تتولى اعتراض اتصالاته والتنصت على وحداته السياسية أكثر من دولة من دول العيون الخمس وهما الدولتان المؤسستان والأكثر دراية به المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
ومن المثير للدهشة أيضا أن البلد الأساسي في الشرق الأوسط الذي يعتبره «تجمع العيون الخمس» مفيدا للغاية في دعم النشاط الاستخباري له عن المنطقة ويتشارك معه في المعلومات ولكن بشكل غير كامل هي إسرائيل الخصم الوجودي للعرب!!
الغريب أن الحضور الإسرائيلي في «سردية» البنية التحتية للاستخبارات الغربية التي تهيمن على العالم لا يقتصر على الجانب الأنجلو ساكسوني ولكن أيضا على الجانب الهندي فقد تسرب إلى وسائل الإعلام الغربية القريبة من مجموعة العيون الخمس معلومات تقول أن أحد أسباب الميل لفكرة أن عناصر حكومية هندية قد تكون على علاقة باغتيال المنشق الهندي في كندا هو التطور المتسارع في التعاون بين الأجهزة المختصة في نيودلهي وجهاز الموساد الإسرائيلي في السنوات الأخيرة الذي تقول هذه المصادر أنه درب عناصر هندية على احتذاء النموذج الإسرائيلي المعروف بنقل معاركه للخارج و باستهداف خصومه بعيدا عن الأراضي الإسرائيلية من بيروت إلى عنتيبي ومن مالطا إلى تونس.. .
لبيان الدور الخطير لهذه المؤسسة الاستخباراتية في إبقاء القيادة الأنجلو ساكسونية للعالم ومنع أي مزاحمة لها يكفي الإشارة إلى ما أثبتته الوثائق من أن معلومات هذه المؤسسة سواء عندما كانت مقصورة على لندن وواشنطن أو بعد توسعها وضم أستراليا ونيوزيلندا وكندا لها كان جزءا من كل انقلاب أو عملية اغتيال أو نصر عسكري تحقق للغرب.
الأمثلة تطول قائمتها حتى لا تكاد تنتهي نذكر منها فقط: نجاح أمريكا وبريطانيا في إسقاط الزعيم الوطني الإيراني مصدق بعد أن تجاسر ودعا لتأميم النفط الإيراني من يد الشركات الغربية أو في اغتيال الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا أو فوز بريطانيا في حرب الفوكلاند على الأرجنتين أو الانتصار على العراق في عملية غزو ٢٠٠٣.
ثاني الأزمات المحدودة ولكن كشفت عن حقائق واسعة للهيمنة والصراع والتنافس فهي أزمة أو حرب ناجورنو- كاراباخ الخاطفة بين أرمينيا وأذربيجان التي جرت مؤخرا. والتي انتصرت فيها أذربيجان انتصارا حاسما وأصبحت منطقة ناغورنو – كاراباخ الجبلية الفاصلة بين أذربيجان وأرمينيا يتنازعان عليها منذ عقود طويلة.. أصبحت تحت السيادة الكاملة لباكو.
الفوز الخاطف والساحق الذي أنهى صراع حدود و«هويات» مزمن في هذه البقعة هو الذي تكفل بكشف حقائق كبرى تتجاوز الخلاف بين دولتين ألا وهو أنه جزء من عملية استراتيجية عالمية غربية لإضعاف روسيا والصين في وسط آسيا وإضعاف إيران حليفة بكين وموسكو في الشرق الأوسط. الفوز الخاطف والكاسح الذي تحقق للقوات الآذرية تم فقط بعد تعاون عسكري بين إسرائيل وأذربيجان بتشجيع سياسي واستخباراتي ودعم غربي. وكانت أهم نقاط التعاون التي منحت التفوق الآذريين هي طائرات الدرون الإسرائيلية الأكثر تقدما وتوجيها وتدميرا من الطائرات المنافسة الإيرانية التي زودت بها طهران الجانب الأرمني وصواريخ إسرائيلية متقدمة. الإسرائيليون المولعون بالمبالغة في إظهار تفوقهم العسكري والاستخباري لإخافة الفلسطينيين والإيرانيين والمنطقة عموما لم يتركوا بابا للفخر بأسلحتهم بعد هذه الحرب إلا ولجوا منه ووصل الأمر إلى إعلانهم صراحة أن الحرب لم تكن بين أذربيجان وأرمينيا وإنما بين إسرائيل وإيران وقد انتصرت فيها إسرائيل.
تشمل الاستراتيجية التي تنسق سياستها التوافق بين تحالف العيون الخمس محاصرة إيران بحزام آسيوي معاد من جيرانها تؤدي فيه أذربيجان دورا رئيسيا بسبب مواريث النزاع التاريخية مع طهران وقطع الطريق على ممر LACHIN التجاري المهم الذي يربط بينها وبين روسيا والأخطر هو ما يجري تداوله على نطاق ضيق من أن إسرائيل أصبحت العين الأساسية لنفسها وللعيون الخمس في تجسس ناجح على إيران يوفره القرب الجغرافي اللصيق بين باكو والأراضي الإيرانية بل وينسب البعض جزءا من النجاح المذهل لعمليات اغتيال علماء نوويين ومطارات إيرانية من قبل إسرائيل للمعلومات التي جمعها الموساد وكذلك يستخدم هذا القرب الجغرافي والنفوذ الاستخباري للتحالف الاستخباراتي المذكور في سياسة التواصل الغربي مع معارضين إيرانيين لتشجيعهم على إحداث اضطراب اجتماعي وسياسي داخلي متواتر ضد نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
يبدو أن الأزمات العابرة كانت مثل جبل الجليد الذي يخفي حقائقه الأكبر والأخطر تحت الماء ويبدو أن التحالفات الاستخبارية الأنجلو ساكسونية مع الموساد وغيرها ما زالت ممسكة بكثير من خيوط لعبة النظام الدولي رغم المحاولات الصينية الخجولة والروسية الخشنة لإزاحتهم وإزاحة الغرب من قمرة قيادة العالم.