ثقافة

في ذكرى طه حسين الخمسين.. أين نحن من القيم التي نذر طه حسين حياته للدفاع عنها؟

في الثامن والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٧٣، ترجّل فارس الكلمة عميد التنوير العربي طه حسين، الذي لخّصتْ حياته الفكرية أهم القيم التي تحتاج إليها الأمم في فترات تحوّلها من الركود إلى النهوض.

نشأ حسين ريفيا ضريرا ينتمى إلى أسرة أقل من المتوسطة منحته بإلكاد تعليما دينيا يُؤهله؛ لأن يكون فقيها أو مقرئا أو معلما في قرية، فإذا به يتمرد على حاضره، ومستقبله تمردا ليس فيه عزوف ولا احتقار بل تمرد يصحبه تفكير عميق في سُبل مواجهة الركود الفكري، وتفكيك بيئته الحاضنة.

خرج إلى الحياة العامة في وقتٍ كانت سطوة القديم على أشدّها، فبذور التجديد التي نثرها الرواد الأوائل من أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده صدمتْ أذهان المتمسكين بالتقليد، ما دفعهم إلى محاصرتها، فكان لابد من شخصية ثائرة لا تهدأ، ولا تملّ مثل حسين تُعلن صراحة القيم التي نحتاج إليها للنهوض الحضاري، ناقلا الصراع مع التقليديين من المجالس المغلقة إلى أوساط الجماهير العريضة.

ثار حسين على نمط التعليم القائم على التلقين المباشر والحفظ الحرفي لآراء الغير، وإضفاء قداسة على القديم/التراث، متبنيا منهجا بحثيا جديدا على الفكر العربي، يقول عنه في مستهلّ كتاب “الشعر الجاهلي”: “القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كلّ شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما… يجب حين نستقبل البحث على الأدب العربي وتاريخه أن ننسى عواطفنا القومية وكلّ مشخصاتها، وأن ننسى عواطفنا الدينية وكلّ ما يتصل بها، وأن ننسى ما يُضاد هذه العواطف القومية والدينية، ولا نُذعن لشئ إلا مناهج البحث العلمي الصحيح”.

في الشعر الجاهلي

لم يكن تجسيد حياة طه حسين لقيم التنوع والالتقاء الثقافي تنكّرا لثقافة أمته- قدر كونها ترشيدا لمسارها، فجمع في مستهل حياته العلمية بين دروس الشيخ المرصفي في الأزهر صباحا، ودروس المستشرق “فللينو” في الجامعة المصرية القديمة مساء، وعندما تقدّم للحصول على أول درجة دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية وفق نظام التعليم الحديث، جعل ميدان دراسته تربة التراث القديم باختياره لشعر أبي العلاء، فلم يكتف حسين بالدفاع الصريح عن العقلانية في كتاباته، بل اختار من التراث النماذج الأكثر عقلانية؛ لتكون موضوعا لدراساته، فاهتمامه بأبي العلاء وابن خلدون والثورات الاجتماعية الباحثة عن العدالة مثل ثورة الزنج يعكس التزاما أصيلا منه بالتواصل مع التراث في وجهه العقلاني، فلم يكن حسين ممن يُرضي العامة باختيار النزعات اللاعقلية، وما أكثرها في تراثنا.

ظلّ حسين وفيا لتراثه العربي وكتابه المقدس متأثّرا به على حدّ قوله: “أول كتاب قرأته وأثر في حياتي هو القرآن ولم يزل يؤثر في حياتي حتى الآن، وثاني كتاب هو “لزوميات أبي العلاء المعري” الذي اتخذته موضوعا لرسالة الدكتوراه في الجامعة المصرية القديمة. ونوقشت في هذه الرسالة في ٥ مايو سنة ١٩١٤ قبل أن أسافر إلى أوربا. وقد اختلفت علي ظروف الحياة منذ سافرت إلى أوربا، ومنذ حدثت الأحداث الخاصة والعامة في مصر وفي غير مصر، وهي التي يتأثر بها الناس جميعا، ولكني ما زلت إلى الآن على رغم هذا متأثرا أشد التأثر بأول كتاب عرفته وهو القرآن، وبثاني كتاب أحببته وهو اللزوميات”.

وكما استوعب طه حسين تراثه، ودافع عنه، وأنتج فيه العديد من الروائع اتسع أفقه للتراث العالمي، وتحمس للثقافة الإنسانية، على حدّ قوله: “إن حياتنا متصلة بحياة الشعوب الأخرى متأثرة بها، ومؤثرة فيها سواء أردنا ذلك أم لم نُرد بعد أن ألغيت الآماد والأبعاد”، فدافع عن تدريس الآداب واللغات القديمة بما في ذلك اللاتينية والأدب اليوناني القديم، وفتح المجال لأول مرة في العالم العربي لتدريس الآداب واللغات الشرقية في الجامعة، ونقل الثقافة المسرحية، وأسهم في نشرها بدعمه تأسيس الفرقة القومية المصرية للتمثيل سنة ١٩٣٥، التي أسندت إدارتها إلى خليل مطران حتى سنة ١٩٤٢، وقد أثارت الفرقة جدلا وقت ظهورها إلا أنها استطاعت الصمود، وقدّمت في أول عروضها ثلاثة أعمال من ترجمة الدكتور طه حسين، أعقبها مسرحية “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم.

طه حسين

كذلك مثّل “التّعلم” قيمة مطلقة في فكر ووجدان طه حسين، فهو الشرط الأول لنهوض المجتمع من التخلف، فآمن بالعلم واستقلال مؤسساته وكرامة طلابه وحرية باحثيه، فرفض، بعد أنْ تولى عمادة كلية الآداب في ١٩٣٠، وكان أول مصري يشغل هذا المنصب، أن تعتدي حكومة إسماعيل صدقي على استقلال الجامعة؛ فأقاله إسماعيل صدقي في٣ مارس ١٩٣٢، وأحاله إلى التقاعد في ٢٩ من الشهر نفسه؛ ليعود بعدها بعامين محمولا على أعناق الطلبة.

وكان من بين الرسائل العديدة التي تلقاها طه حسين بمناسبة عودته للجامعة ٢٨ نوفمبر سنة ١٩٣٤، رسالة قصيرة من الكاتبة اللبنانية مي زيادة (١٨٨٦-١٩٤١) مما جاء فيها:

“يا أبا العلاء “مبروك” حقك يُردّ إليك كما يُرد إلى الشباب المصري حقّه عندك!

أودّ أن أذكرك أني تنبأت بهذا في إيوان أبي الهول بتاريخ ١٢ يوليو، وكاهن أوزيريس يشهد قلت يومئذ أن الجامعة المصرية تستدعيك إليها خلال شهر نوفمبر، ولم يكن في ذلك الحين من حديث أو شبه حديث عن الأزمة التي ظهرت في الشهرين الأخيرين.

أتعد، يا أبا العلاء وفولتير معا أتعد بتصديق إلهام المرأة بعد اليوم؟

لقد كنت طول هذه المدة رجلا وعرفت أن تتألم كرجل حقا”.

لم يترك طه حسين بصمة في نفوس طلابه فحسب، بل ترك أثرا في نفوس متابعيه من القرّاء في مختلف أنحاء العالم العربي، وملأ حياتهم بحسّ الكفاح وروح الطموح، فيحكى الأديب اللبناني سهيل إدريس أنّه منذ حداثته كان يُتابع بلهفة كلَّ ما كان يكتب طه حسين، وقد بلغ من طموحه أنه، وهو ما زال في سن الرابعة عشرة، ترجم رواية “مولين الكبير” لالين فورنيه، وأرسلها إلى الدكتور طه حسين الذي كان مشرفا آنذاك على إصدار مجلة “الكاتب المصري” غير أنّ الترجمة لم تُنشر لاحتجاب المجلة وإغلاق فرع دارها الناشرة، ومضى ستة عشر عاما، زار بعدها سهيل إدريس، لأول مرة، طه حسين في مكتبه ليدعوه إلى زيارة بيروت وإجراء مناظرته الشهيرة مع رئيف خوري في موضوع “أيكتب الأديب للعامة أم للخاصة”، وحين أستأذنه سهيل بالانصراف استوقفه طه حسين قائلا لسكرتيره فريد شحاته: “أعد للأستاذ سهيل أمانته القديمة”.

فإذا به يُعيد إليه مخطوطة ترجمته “مولن الكبير” قائلا وهو يبتسم ابتسامته الهادئة “إننا لا نُضيع جهود الأدباء”!

إذا أردنا أن نُحدد موقع حاضرنا اليوم من مسيرة النهوض الحضاري فعلينا أن نسأل أنفسنا أين نقف من قيم التحرر الفكري والتسامح والعقلانية التي كافح من أجلها طه حسين؟ لماذا، بعد مُضي نصف قرن، لم تمض حياتنا الفكرية إلى مزيد من التحرر واتساع الأفق! لماذا كانت معارك طه حسين الفكرية مع كبار الكتّاب رغم شراستها، لا يستعدي فيه السلطة على الآخر المختلف ولا يثير عليه نقمة العامة، كما يحدث اليوم، فلا نكاد نطرح قضية فكرية إلا ويُسارع البعض باستعداء المجتمع والسلطة؛ ليفوت على الآخر فرصة التعبير عن نفسه!

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

أستاذ بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock