في الحديث حول: “دعـاء المُلْك.. مع سُلَيْمَان عليه السلام”، وصلنا إلى أن دعاء نبي الله “سُلَيْمَانَ”، وطلبه “المُلك” كـ”هبة إلهية”؛ يتبدى بوضوح عبر قوله سبحانه وتعالى: “وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ٭ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ٭ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ” [ص: 34-36].
وكما يبدو، فإن سياق الآية الكريمة يوضح كيف أن “سُلَيْمَانَ” طلب في البداية المغفرة “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي”؛ ثم، طلب المُلك “وَهَبْ لِي مُلْكًا”، وذلك قبل أن يطلب اختصاصه بهذا المُلك “مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي”؛ أي “لا يرثه” أحدٌ غيري “مِنْ بَعْدِي”، وإلا كان قال “لا ينبغي لأحد غيري”؛ واختتم دعائه بالتقرب من الله سبحانه وتعالى، من خلال أحد أسمائه الحسنى “إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ”. وبالتالي، جاء دعاء “سُلَيْمَانَ” عليه السلام على الصيغة “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي… وَهَبْ لِي… إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ “.
واللافت هنا أن نبي الله “سُلَيْمَانَ” طلب في البداية المغفرة كمقدمة وسبب، لانفتاح الخيرات الإلهية في الحياة الدنيا؛ وهو -عليه السلام- هنا سار على نهج نبي الله “نُوحٌ”، حين ما دعا قومه إلى “الاستغفار” أولًا، لأجل الخيرات الإلهية في الحياة الدنيا؛ كما جاء في قوله عزَّ من قائل: “فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ٭ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ٭ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا” [نوح: 10-12].
ويبقى التساؤل: ما هي النعم الإلهية التي وهبها الله سبحانه لنبيه “سُلَيْمَانَ” عليه السلام؛ وكان دعاء “سُلَيْمَانَ” بطلب المغفرة، ثم طلب “المُلْك”، سببًا فيها؟
لعل أول ما يواجهنا، في هذا الشأن، أن أولى النعم الإلهية التي خصَّ الله سبحانه بها نبيه “سُلَيْمَانَ” عليه السلام، هي قوله تعالى: “فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ”؛ أي طائعة ومنقادة له، بشكل تبدو فيه “رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ”. وكما يبدو، من سياق الآية الكريمة [ص: 34-36]، تأتي “فاء” السببية (التي يكون ما قبلها سببًا لما بعدها)، لتؤكد ما أشرنا إليه من قبل، من أن نبي الله “سُلَيْمَانَ” طلب في البداية المغفرة، كمقدمة وسبب، لانفتاح الخيرات الإلهية في الحياة الدنيا؛ كما في قوله سبحانه: “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي… وَهَبْ لِي… فَـ… سَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ”. والتأكيد على أن “الفاء” سببية، إنما يأتي من أن ما قبلها من دعاء “اغْفِرْ لِي… وَهَبْ لِي…”، هي أفعال “أمر” (وكل أفعال الدعاء الإنساني هي أفعال “أمر”).
إلا أن المُلاحظ، في هذا الإطار، هو “لام” الملكية التي وردت مع نبي الله “سُلَيْمَانَ” عليه السلام؛ في حين أن “مَعَ” هي ما وردت مع نبي الله “دَاوُودَ” عليه السلام. بالنسبة إلى “دَاوُودَ”، يقول الحق سبحانه: “وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ” [الأنبياء: 79]، حيث إن “يُسَبِّحْنَ” هي، من منظور اللسان القرآني، حال “الْجِبَالَ” بمعنى مُسبحات؛ وهي، من ثم، ليست حال “دَاوُودَ”، لذا وردت “مَعَ”؛ مثلما وردت في قوله تعالى: “إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ” [ص: 18]؛ وأيضًا، كما في قوله: “يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ” [سبأ: 10].
أما بالنسبة إلى نبي الله “سُلَيْمَانَ”، يقول الحق سبحانه: “فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ” [ص: 36]، حيث ترد “لام” الملكية بناءً على التقدير الإلهي “تَجْرِي بِأَمْرِهِ”؛ تمامًا كما في قوله عزَّ وجل: “وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ” [الأنبياء: 81]؛ وكما في قوله تعالى: “وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ” [سبأ: 12].
ولعل ورود “لام” الملكية مع “سُلَيْمَانَ”، يأتي متوافقًا مع العطاء الإلهي “له”، ليس فقط في تسخير “الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ” ولكن كذلك في تسخير “الشَّيَاطِين”، كما يرد في سياق الآيات الكريمات: “وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ٭ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ٭ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ٭ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ٭ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ٭ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” [ص: 34-39].
وهنا، لنا أن نلاحظ أن “كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ”، هم نوع مختلف، في البُعْد عن الطرق التقليدية من حيث العمل والإنتاج، عن الآخرين الذين هم “مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ”؛ إذ، رغم أنهم يأتون ضمن النعم الإلهية التي أعطاها رب العالمين لنبيه “سُلَيْمَانَ”، كما في سياق الآية الكريمة: “فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ… وَالشَّيَاطِينَ… وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ”؛ إلا أنهم مثلهم مثل “الْمُجْرِمِينَ”، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: “وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ” [إبراهيم: 49]؛ مع التأكيد على أن “الْمُجْرِمِينَ” هم على العكس من “الْمُسْلِمِينَ”؛ كما يُشير إلى ذلك قوله تعالى: “أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ٭ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ” [القلم: 35-36].
ملاحظة أخرى، مفادها ورود مصطلح “الشَّيَاطِين”، في قوله سبحانه “وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ٭ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ” [ص: 37-38]؛ في حين ورد مصطلح آخر، هو “الْجِنّ”، في آية أخرى هي قوله تعالى: “وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ٭ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ” [سبأ: 12-13].
وكما يبدو، فقد ورد مصطلح “الشَّيَاطِين”، في الآية [ص: 37]، مُعَرَّفًا بـ”الـ” التعريف؛ أما في الآية [سبأ: 12]، فقد ورد حرف التبعيض “مِنْ” مع مصطلح “الْجِنّ”، بما يُشير إلى البعض من “الْجِنّ”، وليس كلهم.
والفارق بين “الْجِنّ” وبين “الشَّيْطَان”، أن الأخير هو اسم لما كفر من الأول؛ وكما هو حال “الإِنْس”، فقد آمن بعض “الْجِنّ” وأطاع أوامر الله عزَّ وجل، وكفر بعضهم وعصى أوامر ربه سبحانه وتعالى.. وقد دلَّ على ذلك، قوله سبحانه، على لسان “الْجِنّ”: “وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ٭ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا” [الجن: 14-15]. أما ما يدل على كُفْر الشياطين، فهو قوله تعالى: “وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا…” [البقرة: 102]؛ وقوله عزَّ من قائل: “إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا” [الإسراء: 27].
وبالتالي، وكما يبدو من سياق الآيات الكريمات، فإن “الشَّيَاطِين” هم “نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ”، ولكن كفروا بأمر ربهم الحق؛ ومن هنا، فقد جاء مصطلح “الشَّيَاطِين” في الآية [ص: 37]، في حين وردت “مِنْ” للتبعيض للدلالة على بعض “الْجِنّ” في الآية [سبأ: 12].
في هذا السياق، من الحديث المتواصل عن مصطلح “التسخير”، مفهومه ودلالته القرآنية، لم يتبق لنا سوى الآية الأخيرة في آيات التنزيل الحكيم، التي ورد بها مصطلح “سَخَّرَ”؛ نعني قوله سبحانه وتعالى: “وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ٭ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ” [الحاقة: 6-7].
ولعل النقطة الأهم، في ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، هي دلالتها على المفهوم الذي وصلنا إليه لمصطلح “التسخير”؛ أي: إن “التسخير”، كـ”سُنَّة إلهية”، يتحدد مفهومه في: “جريان الأشياء والظواهر على عادة مضطردة، بطريقة معروفة أو تمكن معرفتها”.
إذ لنا أن نلاحظ بخصوص قوله سبحانه “سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا”، هو معنى “حُسُومًا”؛ وهو المعنى الذي يؤكد على ما وصلنا إليه؛ فـ”رِيحٍ صَرْصَرٍ”، أي “متتابعة متوالية” (حسوم: جمع حاسم، كشهود وقعود.. ومعنى “الحسم”: القطع بالاستئصال، وقد سُمي السيف حُسامًا، لأنه يحسم العدو عن ما يُريد). أي إن هذه الأيام قد تتابعت عليهم بالريح المُهلِكة، فلم يكن فيها فتور أو انقطاع؛ بما يعني: إن العذاب لم يكن متفرقًا في هذه المدة؛ بل، كان متتابعًا متواليًا.
وهكذا.. يتأكد لدينا المفهوم الذي وصلنا إليه حول مصطلح “التسخير” في التنزيل الحكيم؛ ليس، فقط، من منظور إن هذا المفهوم يتحدد، كـ”سُنَّة إلهية”، في: “جريان الأشياء والظواهر على عادة مضطردة، بطريقة معروفة أو تمكن معرفتها”.. ولكن، أيضًا، من حيث إن دلالته تُشير إلى كونه “حركة ذات هدف”.