كتاب “خواطر” لعميد الأدب العربي، هو واحد من الكتب النقدية للدكتور طه حسين، صدر منه عدة طبعات كانت الأولى عام ١٩٦٥، عن “دار العلم للملايين” اللبنانية وآخرها طبعة جديدة صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مطلع العام ٢٠١٧، في إطار مشروعٍ لإعادة طبع بعض الأعمال غير المشهورة للدكتور طه.
أهمية هذا الكتاب الصغير الحجم الذي تبلغ صفحاته ١٤٠ صفحة أنه كتاب نقدي بامتياز، وهو كشأن الأعمال النقدية لمفكرنا الكبير تحتوي من الدرس والملاحظة والإيضاح المفيد لِمن يريد أن يعرف حدود هذا العلم وهذا الفن من أعمال الفكر والأدب.
الكتاب يتناول بالنقد أعمال كُتّاب كبار مثل المؤرخ الكبير محمد رفعت الذي لا يعرفه -للأسف- الكثير من مثقفي عصرنا الراهن فضلا عن أسماء أخرى تتراوح شهرتهم ما بين المعروف وذائع الصيت والذي يكاد يُعرف، لكن الدكتور طه أعطى لكل ذي حق حقه من خلال إلقاء الضوء على أعمال كل منهم، فقد أثنى على كتاب “تاريخ حوض البحر المتوسط وتياراته السياسية” أتم وأكمل الثناء، للمؤرخ والجغرافي الكبير محمد رفعت، في حين توقّف بالنقد القاسي عند رواية “ثم تشرق الشمس” لثروت أباظة، والتي وصفها بأنها ورغم قراءته لها مرة ومرات لم يستطع أن يصل إلى ما أراد صاحبها من غرض، مُقارنا إياها برواية كتبها الأديب الفرنسي جير لبرت، وتحمل عنوانا هو “كان فيما مضى” كتبها غداة الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥) وجسّدَ فيها تلك القضية الأزلية المسماة “صراع الأجيال” وقد نجح كاتبها في بلوغ الغاية التي قصدها، مُصوّرا الاختلاف العظيم بين جيلين مُتباعدين أشد التباعد.
وهكذا ينجح الأستاذ العميد بالتوقف بالنقد القاسي عند البعض أو التشجيع والتقريظ عند البعض الآخر، على نحو ما فعل مع الأستاذ أنيس منصور في كتابه “حول العالم في مئتي يوم” والذي كتب الدكتور طه مقدمة له تشجيعا لكاتب كان حديث الناس في سنوات الستينيات، ورغم ذلك فقد وصف الأستاذ العميد عنوان الكتاب بالمُخادع، حيث لا يشمل زيارة الكاتب لكثير من دول العالم منها دول أفريقيا على سبيل المثال وروسيا والكثير من الدول الأوروبية وإيران وتركيا وجزيرة العرب وغيرها من دول أمريكا اللاتينية!
أما الكتب التي توقف عندها الدكتور طه بكثير من الاحترام والتقدير، فكانت على سبيل المثال لا الحصر، كتاب “أبو العلاء المعري” للدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) و”أبو نواس: قصة حياته في جِدِّه وهزله” للأستاذ الأديب عبد الرحمن صدقي و”سجن العمر” للأستاذ توفيق الحكيم، وهو عمل يندرج ضمن أعمال السيرة الذاتية لعميد المسرح العربي، تبدأ بروايته الشهيرة “عودة الروح” ثم “عصفور من الشرق” و”يوميات نائب في الأرياف”.
ثم تأتي طائفة أخرى من الأعمال التي أثنى عليها الأستاذ العميد أكبر الثناء لحداثة موضوعاتها وجدة البحث في جوانبها، ويندرج أغلبها ضمن ما يمكن تصنيفه ضمن الدراسات الأدبية والتاريخية ذات الطابع الأكاديمي لا الإبداعي، مثل: “أبو حيان التوحيدي” للدكتور أحمد الحوفي و”النبوغ المغربي في الأدب العربي” للكاتب والأكاديمي المغربي عبد الله كنون، وترجمة كتاب “الكوميديا الإلّهية” وهو واحد من أهم الأعمال الإنسانية التي ظلت صاحبة مكانة في الفكر العالمي رغم كتابة دانتي لها في العصور الوسطى، فقد ترجم الأستاذ حسن عثمان الجزء الأول “الجحيم” و”المُطهّر” والذي يضم الناس الذين تساوت أعمال الخير عندهم مع أفعال الشر والخطيئة، فلا مكان لهم في الجنة أو النار، غير أن اللافت للنظر أن الدكتور طه يُعيب على المترجم أنه لا يشير بحقيقة اسم هذا الموضع في الحياة الآخرة، بذلك الوصف الذي جاء في القرآن الكريم وهو “الأعراف” والذي نزلت السورة السابعة من كتاب الله الكريم تحمل اسمه، وذكر لفظ “الأعراف” في هذه السورة مرتين في قول الله عز وجل “وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ”(46). وأما الثانية قوله عز اسمه وعلا قدره “وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ”(48).
ولكن الدكتور العميد -رغم هذا النقد- تمنّى على المترجم أن يُتم جميل صنعه في هذه الترجمة البديعة، بترجمة الجزء الثالث من “الكوميديا الإلهية” والذي يحمل عنوانا مُبشرا للصابرين، هو “الفردوس”.
أما آخر الأعمال من تلك الطائفة من الكتب التي أثني عليها الدكتور طه حسين فهو كتاب “رحلة الأندلس” للدكتور حسين مؤنس، والذي يصفه بكلمات مُنتقاة تحمل تشجيعا للدكتور مؤنس، فهو يقول بالحرف “أخشى ألا أبلغ ما أريد من الثناء على هذا الكتاب الرائع الذي وجدت في قراءته مُتعة ورضى أي رِضى، فهو قد صوّر حياة العرب في الأندلس؛ فأحسن تصويرها وأظهر ما يملأ هذه الحياة من روعة وروع”.
هذا عن الأعمال التي أشاد بها عميد الأدب العربي، أما النقد الذي تراوحت حدته ما بين النقد القاسي ولفت النظر الحنون، فكان من نصيب بعض الأعمال الإبداعية للأستاذ يوسف السباعي في روايته عن تجربة الوحدة المصرية السورية ما بين أعوام ١٩٥٨ و١٩٦١، والتي تحمل عنوانا هو “ليل له آخر” وكذلك رواية “لقاء هناك” لثروت أباظة، وكتاب “قصة حياتي” للدكتور الطبيب مصطفى الديواني أشهر أطباء عصره، فقد نبّه الحكومة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي إلى خطر مرض خطير وهو “شلل الأطفال”، وكان له الموقف الرائد والفضل العظيم لاستئصال شأفة هذا المرض العُضَال بتعميم التطعيم لكل طفل مصري، فله عظيم الشكر وخالص الامتنان لذكراه العطرة، غير أن الأستاذ العميد يأخذ عليه الوقوع في الخلط بين سيرته الذاتية من ميلاد وتعليم، ورحلاته ومؤتمراته العلمية التي حضرها في كثير من دول العالم، فخرجت “قصة حياة” هذا العَلَمِ في عالم الطب في عدد من الصفحات تجاوزت المئات وبدا فيها الاستطراد على حال من الإسراف شديد، حتى أن الدكتور طه يقول: “…إن طبيبنا البارع وكاتبنا المجيد يُسرِفُ في ذلك إسرافا شديدا فيوشك أن يُذكِّرنا بالجاحظ وأمثاله من القدماء حين يستطردون حتى توشك أن تنسى موضوع كتابه…”.
أما الكتاب الذي ينقده عميد الأدب، ويخرج عن طبيعته الهادئة الصبورة، حتى يُذَكِّرنا بالأستاذ عباس محمود العقاد، في اللجوء إلى قسوة الكلمة وعنف اللفظ، فكان من نصيب كتاب “الجوانية: أصول عقيدة وفلسفة ثورة” للأستاذ الدكتور عثمان أمين فيقول عنه تلك الكلمات غير المألوفة من الدكتور طه: “…هذا كتاب قيّم لا شك في ذلك وقد قرأته وأعدت قراءة بعض فصوله، فاستمتعت بذلك كل المُتعة، ولكني أعترف بشيء قد يُغضب المؤلف وقد يُضحك القراء وهو استمتاعي بقراءة هذا الكتاب إنما كان استمتاعا من نوع خاص، وهو استمتاع التسلية لا استمتاع الفائدة فليس في الكتاب جديد إلا عنوانه الذي يتردد في أثناء الكتاب فلا يستطيع القارئ أن يمر به ويمنع نفسه من الضحك…”.
وهكذا يخرج الأب الحنون عن طبيعته، الأمر الذي دفعني الى أن أعود الى كتاب المؤلف ذاته، الدكتور عثمان أمين، والذي صدر عند منتصف الستينيات من القرن الماضي، وقد عرض له بنفسه في مجلة الفكر المعاصر التي كان يرأس تحريرها آنذاك الدكتور زكي نجيب محمود ويعاونه الدكتور فؤاد زكريا، فوجدت من كلمات الأستاذ العميد الصدق في الوصف والدقة في النقد، فلم يكن مُجافيا الحقيقة أو خارجا عن حدود المألوف، فقد لخّص نقده بالقول: “…وبلغة المؤلف نقول للإيمان جانبان أحدهما جواني والآخر براني وهذا كل ما في الكتاب من جديد، هو إقحام هذين اللفظين “الجواني والبراني” على الفلسفة والمنطق والدين دون أن يكون لهذا موجب أو مُقْتَضَى، فقد عاشت الفلسفة وعاش الدين والمنطق قرونا طوالا على ما فيها من الاصطلاحات المألوفة دون أن ينقصها شيء يمكن أن يُستكمَل بإضافة هذا الاصطلاح الجديد: الجواني والبراني…”.
رحم الله الأستاذ العميد ورحم الله من أتى على ذكرهم بالنقد الحنون، أو النقد العنيف، ففضلا عن أن من جاء على ذكرهم في كتابه باتوا الآن -ومنذ زمن- في رحاب الله، وكان آخرهم الأستاذ أنيس منصور إلا أن غالبيتهم، وهذا هو الأهم كانوا رُوادا كبارا، وأعلاما في علمهم وثقافتهم وفكرهم، فضلا عن تجاربهم التي شملت كل مجالات الحياة.
رحل طه حسين إلى رحاب الله في ٢٨ أكتوبر ١٩٧3، بعد أن قهرت مصر الهزيمة، وحطّم جيش مصر العظيم نظرية الأمن الإسرائيلي خلال حرب أكتوبر.. اطمأنت نفس عميد الأدب العربي، فرجعت الى ربها راضية مرضية بعد أقل من أسبوع على انتهاء العمليات العسكرية.