مختارات

كيسنجر وتلاميذه.. من “آخر الحروب” إلى “نهاية المقاومة”!

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عروبة 22

حسين عبد الغني

لا يوجد في حاضرنا ما يؤكد أننا جهلة لا نقرأ، كما لا يوجد هناك أي دليل علمي على أنّ العرب كبشر ابتلوا بذاكرة مثقوبة أكثر من غيرهم من الأمم. إذن ما هي المشكلة التي تجعل أنتوني بلينكن ووليام بيرنز يرميان للعرب في الحرب الحالية على غزّة “طُعمًا قديمًا”: سبق أن اصطادهم به هنري كيسنجر من ٥٠ عامًا ولكنهم رغم ذلك يبلعونه بسهولة؟!!.

آن آوان الاعتراف بالحقيقة، وهي أنّ النخب الحاكمة العربية – إلا ما ندر – أصبحت كنُظُم سياسية تابعة بنيويًا للولايات المتحدة ولا تتصوّر نفسها تسير خارج المدار الأمريكي، وأنّ هذه النخب سمحت في نصف القرن الأخير عبر عمليات التعليم والخطاب السياسي والإعلامي بتسيّد “سردية” تجعل التبعية نوعًا من الواقعية والتخلي عن استقلال القرار تعاملًا مع حقائق القوة في النظام الدولي!!.

لهذا يقتل الحزن كل متفكّر من أبناء العرب عندما يجد أنّ بلينكن وبيرنز يكرّران في مواجهة نصر “طوفان الأقصى” ٢٠٢٣ استراتيجيات قالها وفرضها كيسنجر على العرب في مواجهة نصر أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣ دون أن يكلّفا نفسيهما مشقة تغيير كلمة واحدة.

ما هو سبب المقاربة الأمريكية المتطابقة بين ٦ أكتوبر/تشرين الأول 1973، و٧ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣؟. أنّ كلًا من الحدثين مثّل انتصارًا عربيًا استراتيجيًا، تضمّن مباغتةً كاملةً أخذت العدو الإسرائيلي وهيبة جيشه واستخباراته التي لا تُقهر إلى الحضيض، وأنهما، كلٌّ في زمنه عرّض إسرائيل لتهديد وجودي.

في مواجهة النصر الأول بعد عبور مائة ألف جندي لقناة السويس، اعتمد كيسنجر بنص كلامه استراتيجية من نقطتين؛ الأولى: هي منع العرب من الحصول على نصر – تم تنفيذ هذه النقطة عمليًا عبر جسر جوي أنقذ إسرائيل من أن تجثو على قدميها، وأعطاها فرصة لعبور محدود غرب القناة عُرف بالثغرة – ساوم كيسنجر بها مصر بعد ذلك أيّما مساومة.

السادات وكسينجر
السادات وكسينجر

النقطة الثانية: هي منع حدوث مثل هذا الهجوم المباغت الذي تُهزم فيه إسرائيل هزيمة نكراء مرّة أخرى – تم تنفيذ هذه النقطة عمليًا عبر إخراج مصر ثم الأردن من حلبة الصراع العسكري بمعاهدات سلام مع إسرائيل، كما تم استدراج “منظّمة التحرير” إلى التخلي عن خيار الكفاح المسلّح وتم تثبيت ذلك في اتفاق أوسلو – وتحقق هدف إزالة أي احتمال أن يشنّ جيش عربي حربًا على إسرائيل ويهزمها فيها بتبنّي السادات شعار “حرب أكتوبر هي آخر الحروب”.

المثير للشفقة أنّ العرب الذين هجروا مهنة الحرب تلقّوا من دون الحرب الجارية حاليًا ما مجموعه ٨ حروب من إسرائيل تمّ فيها تدمير المفاعل النووي العراقي وغزو لبنان وشن حرب ٢٠٠٦ وخمسة حروب على غزّة.

ما تمخّض عن هذه الاستراتيجية الكيسنجرية كان مهولًا، وهو نظام الشرق الأوسط القائم الذي تحكم واشنطن من خلاله المنطقة عبر تحالف أقامته بين شركائها في المنطقة أو ما تسميه تحالف الدول العربية المعتدلة مع إسرائيل في مواجهة إيران وضمنًا لمواجهة أي تسلّل صيني وروسي يزاحم سطوة “العم سام” على العالم العربي.

الاستراتيجية نفسها، والنقطتان بحذافيرهما ذكرهما بلينكن وبيرنز في زيارتهما المطوّلة الأخيرة للمنطقة، ليس فقط لتماثل الانتصارين العربيّين، القديم للجيوش والحديث لفصائل المقاومة، ولكن أيضًا لأنّ النتيجة الوحيدة لاستمرار حالة النصر الفلسطيني والجنون الإسرائيلي الذي تلاه كما يقول توماس فريدمان، هي أن يتمّ هدم “هندسة الإقليم” التي بناها كيسنجر وصمدت حتى ٧ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣، وكما قال محلّلون فإنّ الحرب البربرية على غزّة هي في جوهرها حرب على الصورة التي ستبقى – في أذهان العالم – من حدث “طوفان الأقصى” الأكبر.

غزة

هل سيبقى للتاريخ صورة نصر “حماس” والمقاومة في اجتياح غلاف غزّة وتدمير فرقة كاملة والسيطرة على عشرات الكيبوتسات وقتل ما يقرب من ١٥٠٠ إسرائيلي وأسر نحو ٣٠٠ رهينة؟، أم أنّ حرب إبادة غزّة ستنجح في منع العرب من الحصول على هذا الانتصار التاريخي الثاني وتتمكّن من تحقيق الهدف الأول بصورة نصر مزعومة تقلب الحقيقة تمامًا وتصوّر إسرائيل في التاريخ على أنها المنتصرة كما حاولوا – ولم ينجحوا – بعد حرب 1973.

ويتحقق فيه الهدف الثاني، وهو التيقّن الأمريكي – الإسرائيلي من أنّ هجومًا للمقاومة مثل “طوفان الأقصى” لن يحدث في المستقبل، وذلك من العملية الإسرائيلية الهادفة لاجتثاث البنى العسكرية التحتية لـ”حماس” وإزالة حكمها السياسي للقطاع، خاصة عبر فصل شمال غزّة عن جنوبها وبناء منطقة أمنية عازلة.

بعبارة أخرى؛ تخطّط تسويات بلينكن وبيرنز لأن تكون حرب غزّة نهايةً لخيار المقاومة عند الشعب الفلسطيني، تمامًا كما كانت تسويات كيسنجر نهايةً لحروب الجيوش العربية مع إسرائيل.

قد تستطيع المقاومة الثبات والصمود وإفشال استراتيجية تلاميذ كيسنجر في وضع نهاية لعقيدة المقاومة، وقد تستطيع إسرائيل وأمريكا تدمير معظم المكوّن العسكري للمقاومة في غزّة وفصل الجنوب عن الشمال وإدعاء صورة نصر.. لكن المؤكّد أنّ الشعب الذي يقاوم منذ نحو مائة سنة لن يتخلى عن فكرة المقاومة، وكما حلّت أجيال ومنظّمات جديدة محل حركة “فتح” في الإمساك بالبندقية، ستحلّ أجيال ومنظّمات أخرى غير “حماس” لا تعرف سوى المقاومة وسيلةً وفوهة البندقية طريقًا واحدًا لفلسطين.

مؤسسيًا تأتمر الجيوش النظامية بأمر حكوماتها، لكن المقاومة تأخذ أوامرها من الشعب الفلسطيني وهو لن يلغي هذا الأمر قبل التحرير وتقرير المصير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock