إذا كانت الفصائل المسلحة في الداخل العراقي، تُمثل نمطا من القوى العابرة لحدود الدولة العراقية، من حيث إنها تحتفظ لنفسها بالحق في اختياراتها، وأجنداتها ومصادر قوتها، خارج رقابة الحكومة العراقية؛ وإذا كان بعض هذه الفصائل، يُعتبر جزءًا من تحالف القوى الشيعية الذي يستند إليه تشكيل حكومة محمد شياع السوداني الحالية؛ لذلك كله، تحاول بعض هذه الفصائل العراقية المُسلحة استهداف الحدود الأردنية “معبرا” إلى غزة.
إذ، تحت دعوات مناصرة غزة والقضية الفلسطينية، احتشد آلاف العناصر من تنظيمات عراقية بعضها تنتمي إلى “الحشد الشعبي”، وبعضها الآخر من أتباع مقتضى الصدر، عند مِعْبَر طريبيل، قرب الحدود مع الأردن؛ حيث يُقيمون الخيام ويتظاهرون بتوجيه من مرجعيات دينية وسياسية عراقية، في وضع أشبه بالاعتصام المفتوح. إلا أن اللافت في الأمر، أن هذه الحشود لم تتوقف عند حدود التظاهر، والمُطالبة بفتح الحدود، للعبور إلى الأراضي الفلسطينية؛ بل، قامت بمنع صهاريج محملة بالنفط من العبور إلى الأردن.
ورغم أن الحكومة الأردنية قد امتنعت عن الإدلاء بأية تصريحات، بشأن هذه المسألة؛ إلا أن استهداف تلك الفصائل للحدود الأردنية، لا يخلو من عددٍ من الدوافع المُحركة له.
تتعدد دوافع الفصائل العراقية، في استغلال الحرب على غزة لأجل التحشيد عند الحدود الأردنية.. ولعل أهم هذه الدوافع ما يلي:
أولًا: إعاقة العلاقات الاقتصادية بين الأردن العراق؛ فقد وصف سميح المعايطة، وزير الإعلام الأردني الأسبق، في تصريحات لوسائل إعلام محلية، قبل أيام، تواجد ميليشيات شيعية عراقية، موالية لإيران، قرب الحدود الأردنية بأنه “تحرك عدائي، يتستر بغطاء نصرة فلسطين”؛ مؤكدًا أن لدى إيران “عقدة نتيجة فشلها في صناعة أتباع لها في الأردن”، ولذلك تحاول “عرقلة أي تعاون يجمع بين العراق والأردن”.
واللافت، هو تأكيد المعايطة على أن “طهران تعمل على فرملة أي مشاريع استثمارية أو اقتصادية بين بغداد وعمان”، مستغلة في ذلك “نفوذها على المنظومة السياسية المتحكمة في العراق”. ولأن الميليشيات العراقية الموالية لإيران، متأثرة إلى حد كبير بالموقف الإيراني؛ لذا، فهي لا تخفي عداءها للأردن، من حيث إنه كان حليفًا للرئيس العراقي الراحل صدام حسين؛ فضلًا عن إنه، أي الأردن، كان أول من حذَّر من المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة، عبر مقولة “الهلال الشيعي” التي أطلقها العاهل الأردني قبل سنوات.
ثانيًا: محاولة الضغط على الأمن القومي للأردن؛ فمنذ أكثر من 15 شهرًا، ألمح العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، خلال مقابلة تلفزيونية، في يوليو 2022، إلى وقوع هجمات منتظمة على حدود بلاده “تنفذها ميليشيات لها علاقة بإيران”؛ وأعرب عن أمله في “تغير سلوك طهران”؛ وهي التصريحات التي كان لها أثر كبير على الساحتين الدولية والإقليمية.
ومع الحرب على غزة، وتواجد الفصائل والميليشيات العراقية على حدود الأردن، لم يكتف وزير الإعلام الأردني الأسبق، سميح المعايطة، بالتذكير بتصريحات العاهل الأردني، ولكنه أضاف بأن “ثمة أطراف إقليمية تحاول أن تُشكل حالة ضاغطة على الدولة الأردنية”، مُشيرًا إلى أن “العراقيين الذين يتوجهون للحدود يُنفذون سياسة للضغط على الأردن واستنزافه أمنيًا”.
وأكد المعايطة على أن “ما بين حشود ميليشيات إيران على حدودنا مع العراق، إلى الافتراء على الجيش والدولة في موضوع الطائرات، إلى الاستقواء على الدولة وتحويل تضامننا مع غزة إلى عبء أمني وسياسي، ملف واحد صانعوه أطراف يجمعهم استهداف الأردن”.
ثالثًا: إيقاف مرور شاحنات النفط العراقي للأردن؛ إذ كما هو واضح، فإن هذه الحشود تسعى إلى وقف تزويد الأردن بأي نفط عراقي، بـ”أسعار مُخفضة” بموجب اتفاقات رسمية بين كل من الأردن والعراق؛ وقد أوقف مرور شاحنات النفط، فعليًا، طوال يومين، في خطوة تهدف إلى الضغط على الأردن، لأجل فتح معبر طريبيل الذي تمر منه شاحنات النفط، لأجل المرور إلى الحدود الفلسطينية، كنوع من الاستجابة لدعوة الزعيم الشيعي مقتضى الصدر، التي دعا فيها الشعوب العربية والإسلامية للاعتصام عند الحدود الفلسطينية، لحين فك الحصار عن قطاع غزة.
ورغم أن الاتفاق الأردني العراقي يتعلق بتوريد ما يصل إلى 15 ألف برميل من النفط يوميًا، من منطقة كركوك إلى مصفاة النفط الأردنية؛ ورغم أن هذه الكمية تُمثل حولي 15 % من الاحتياجات اليومية للأردن؛ إلا أن الأمر يبدو كـ”رسالة” موجهة من الطرف الإقليمي الذي تنتمي إليه غالبية هذه الحشود؛ حيث تتشكل معظمها من الحشد الشعبي وحركة النجباء الشيعيتين المواليتان لإيران.
رابعًا: التأثير السلبي على ديناميات الاقتصاد الأردني؛ حيث كان لافتًا، خلال الأيام الأخيرة، الضغوط الخارجية والداخلية على الأردن، سواء من جانب الفصائل والميليشيات العراقية، خاصة الشيعية منها، أو عبر جماعة “الإخوان المسلمين” في داخل المملكة. إذ، لم تكتف هذه الضغوط بمحاولة التأثير على الموقف السياسي والدبلوماسي الأردني، ولكنها تجاوزت ذلك إلى محاولة إرباك الاقتصاد، الذي يُعاني في الأصل من صعوبات متعددة.
ومن ثم، يبدو أن تعطيل شاحنات النفط العراقي إلى الأردن، بحجة علاقة المملكة مع إسرائيل، منذ التوقيع على اتفاقية “وادي عربة”، لم يكن هو المقصود لذاته؛ بل، الواضح هو استهداف حركة التبادل التجاري بين العراق والأردن، وخصوصًا صادرات الأخير إلى بغداد. بما يُشير إلى أن أحد استهدافات الفصائل العراقية، هو الخشية من أن ينعكس تطوير العلاقات الاقتصادية للعراق مع الأردن، سلبًا على إيران؛ حيث شهدت الأشهر القليلة الماضية تراجعًا في حجم التبادل التجاري بين الجانبين، العراق وإيران.
وأخيرًا: محاولة استغلال حالة الاحتقان السياسي الداخلي؛ إذ رغم تجنب الحكومة الأردنية التعليق على تواجد حشود من الفصائل العراقية على الحدود، والاكتفاء بالاتصالات الدبلوماسية التي أُجريت مع الجانب العراقي؛ يخشى الأردن من احتمال استغلال هذه الفصائل لأحداث الحرب على غزة، والتغلغل إلى الأراضي الأردنية، لإثارة الاضطرابات.
والملاحظ، أن الفصائل العراقية وتحشيدها اللافت على الحدود الأردنية، إنما تحاول فعليًا استغلال حالة الاحتقان السياسي الداخلي، للدفع في اتجاه اتخاذ الحكومة قرارات سياسية أكثر صرامة تجاه إسرائيل، مثل “إلغاء اتفاقية وادي عربة”، الذي أصبح مطلبًا أكثر إلحاحًا في هتافات المتظاهرين قبالة السفارة الإسرائيلية لدى عمان؛ خاصة أن المعروف في الداخل الأردني، أن أعضاء مجلس النواب قد قاموا بتوقيع 70 مذكرة نيابية تُطالب بإلغاء المعاهدة، بعضها وقّعَ عليه بالإجماع، لكنها ظلت حبيسة الأدراج ولم تُناقش من جانب الحكومة.
في هذا السياق، يُمكن القول بأن استهداف الفصائل العراقية، خصوصًا الموالية لإيران، للحدود الأردنية بحجة المرور إلى فلسطين المحتلة، هو استهداف مثير للتساؤلات؛ خصوصًا أن الفصائل نفسها كان يمكنها التوجه نحو الحدود الفلسطينية، عن طريق سوريا ولبنان، المحسوبتان، سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا، على ما يُطلق عليه “محور المقاومة”، فضلًا عن تواجد عدد كبير من مناصري هذه الفصائل على الأرض في هاتين الساحتين.
إلا أن ما يمكن ملاحظته، إضافة إلى مجموع العوامل التي تستند إليها الفصائل العراقية، في استهداف الحدود الأردنية؛ أن ثمة محاولة لأجل “توتير” العلاقات العراقية الأردنية؛ إذ، يبدو على الجانب الأردني، أن حكومة محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، لا تبذل الجهد الكافي للحيلولة دول تحوّل وجود آلاف من العراقيين على الحدود في حالة اعتصام، إلى “أزمة صامتة” بين البلدين، لكنها مفتوحة على كافة الاحتمالات المستقبلية، خاصة أنها أزمة قابلة للتمدد أمنيًا.