بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عمان
لم يتوقف التيار العربي «المتصهين» منذ ٧ أكتوبر عن الجزم القاطع بأن إسرائيل ستحقق كل أهدافها في الحرب وأن قرار متى وكيف تنتهي هذه الحرب هو في يدها وحدها بلا منازع وبالتحديد في يد قائدها السياسي بنيامين نتانياهو.
الآن وبعد مرور نحو ١١٠ أيام على الحرب نستطيع أن نقول بقدر من الاطمئنان إن انبهارهم بالعدو واستسلامهم لسردية تفوقه الذي لا يقهر سقط كما سقطت بالضبط هيبة هذا العدو في وحل غزة.
فلأول مرة منذ بدء الحرب يمكننا القول إن تطورا نوعيا سيطر على مسار الأزمة ألا وهو أن احتمالات وقف وإنهاء هذه الحرب باتت متعادلة مع احتمالات استمرارها، والأهم أنه ثبت أن قرار هذه الحرب ليس بيد نتانياهو وحده وإنما تؤثر فيه قوى وعناصر أخرى.
لم يحدث ذلك بسبب موقف عربي جماعي حازم ولا بسبب تدخل صيني – روسي يوازن الانحياز الأمريكي المطلق ولكن بسبب صمود المقاومة الفلسطينية وإفسادها الأسطوري للحملة الإسرائيلية الأمريكية الأطلسية ومنعها من تحقيق هدف واحد من أهدافها حتى الآن.
أفشلت المقاوم الهدف الرئيسي المعلن من تل أبيب وواشنطن وهو محو المقاومة عسكريا فما زالت حماس والجهاد محافظتَين على جزء أساسي من قوتها البشرية وحتى من قوتها الصاروخية وقوة النيران. ولم تصل يد جيشها التي يراها المتصهينون العرب طويلة إلى قادة حماس الكبار الخمسة ولا إلى ربع عدد الأنفاق. حققت إنجازات تكتيكية توغلت في شمال ووادي غزة ووسطها وجزء بسيط من الجنوب لكنها تدفع ثمنا باهظا يوميا من ضباطها وجنودها وعتادها «هناك حديث عن نحو عشرة آلاف جندي إسرائيلي معوق كليا أو جزئيا منذ ٧ أكتوبر».
سقط مع الإخفاق العسكري هدفان كبيران للتخطيط الإسرائيلي -الأمريكي للحرب؛ الأول هو الحلم الكاذب بقلب الحاضنة الشعبية في غزة على المقاومة سواء بسبب مرارة فقدهم لأحبتهم بسبب مقتلهم والإبادة الوحشية للفلسطينيين أو دفعهم للنزوح نحو الجنوب حيث لا تكفي الخدمات لنحو مليونين من البشر وبالتالي توقع هذا التخطيط أن نقص الغذاء والماء والدواء سيقود إلى انتفاضة شعبية ضد حماس لكن آمالهم خابت.
والهدف الثاني للمخطط هو دفعهم جزئيا أو كليا للهجرة إلى سيناء المصرية لكنهم تشبثوا بأرضهم ورفضوا أن يتركوها للمحتل.
لم يعد في بنك الأهداف الإسرائيلية سوى تحرير الأسرى المختطفين لدى المقاومة وهنا كان الفشل أعظم فلم تنجح إسرائيل في تحديد مكان أو تحرير رهينة واحدة منهم بل قتلت بالقصف الجوي والمدفعي عشرات من أبنائها بأيديها بعمليات طائشة وفاشلة للجيش.
باختصار أصبحت إسرائيل عالقة في الحرب وعاجزة عن تحقيق أي هدف استراتيجي. وهنا حدث التحول النوعي فقد تحولت الأصوات الفردية لرؤساء وزراء سابقين وجنرالات وقادة المعارضة الذين رأوا مبكرا أن الحرب وصلت إلى طريق مسدود إلى تيار جارف يضم تقريبا الأكثرية في نخبة الأمن والعسكرية والسياسة في إسرائيل.. نحن نتحدث عن إيهود باراك وإيهود أولمرت ويوسي كوهين وموشيه ايالون. الجديد حقا والمثير هو الانضمام المثير لأهم قائدين عسكريين حديثين نسبيا ولهما تأثير ممتد حتى الآن على قادة الجيش الحاليين والوزيرين في حكومة الوحدة الوطنية و«كابينت» الحرب غادي آيزنكوت وبيني غانتس إلى هذا التيار. يقول آيزنكوت: «لا يوجد سبب للاستمرار في الحرب بالطريقة نفسها كالعميان ونحن في وقت حرج ويجب التوقف عن الكذب وإظهار الشجاعة بالتوجه إلى صفقة كبيرة تعيد المحتجزين». ويقول إيهود باراك: حماس لم تُهزم، وغياب هدف واقعي سيُغرق إسرائيل في مستنقع غزة. هذا التيار من النخبة الذي يملك وجوهه تأثيرا على الرأي العام الإسرائيلي التحم بتيار آخر انضم إلى حملة أهالي الـ١٣٦ أسيرا إسرائيليا لدى المقاومة في غزة التي تضغط على الحكومة تحت شعار واحد بالغ القوة والتأثير موجه لنتانياهو شخصيا: وهو لا تخسر كل شيء، وإذا لم تستطع تحقيق هدف.. لا تضيع الأهداف كلها فإذا كنت قد فشلت في محو حماس واغتيال قادتها في غزة فعلى الأقل أعِد المخطوفين إلى أهاليهم. هؤلاء المخطوفين الذين يمثلون التزاما أخلاقيا فبعد فشلك في حمايتهم لإخفاق أمنك وجيشك في توقع هجوم ٧ أكتوبر وبعد فشلك في استعادتهم بالقوة عليك أن ترضخ وتعيدهم بالتفاوض مع حماس كما فعلت في الهدنة السابقة.
يلخص محلل إسرائيلي أمني بارز التحول النوعي الضاغط لوقف الحرب وانتزاع قرارها من نتانياهو: حماس لن تختفي، ولا حتى في السنة القريبة القادمة، وإطلاق الصواريخ أيضا سيستمر بهذه القوة أو تلك. فلتحرروا المخطوفين على الأقل عن طريق الوسطاء والمفاوضات.
ويقول آخر إن على القيادة السياسية أن تضع مصلحة الشعب اليهودي قبل مصالحها وأن تأخذ فورا قرارات صعبة ومريرة تبدأ بالوقف الفوري للحرب وإعادة أبنائنا الأسرى إلى عائلاتهم حتى لو كان المقابل هو إفراغ السجون من كل الأسرى الفلسطينيين. الشعار المتنامي «أوقف الحرب الآن وأعد الرهائن يا نتانياهو» كان بوسعه تغيير مسار الأزمة ويتجه نحو إنهاء الفصل العسكري فيها كما هو حال الحروب التي تخفق في تحقيق أهدافها السياسية. وعلى عكس ما تروّج النخبة السياسية العربية الموالية لواشنطن من أن الرئيس بايدن يضغط على نتانياهو لوقف الحرب فإن حقيقة الأمر هي أن المصالح السياسية للرئيس الأمريكي جو بايدن ولمؤسسة الأمن القومي الأمريكي قبل مصالح بنيامين نتانياهو هي العقبة الرئيسية التي تمنع وقف الحرب رغم أنها عالقة منذ أشهر.
حسم بايدن الأمر بنفسه أمس الأول عندما قال في محادثة هاتفية مع بنيامين نتانياهو إننا لا نزال ضد وقف الحرب لأنها ستصب في مصلحة حماس. الرئيس بايدن أحد أطول أعضاء الكونجرس الأمريكي ونائب الرئيس أوباما ثم الرئيس الحالي هو ابن قديم وبار للمؤسسة الأمريكية وابن قديم وبار للصهيونية السياسية كما يتفاخر دائما. مؤسسة الأمن القومي الأمريكية ترى أن استمرار المقاومة الفلسطينية في حلف إيران هي العقبة الكؤود أمام مشروعه في التطبيع الإقليمي وإقامة تحالف عربي إسرائيلي ضد طهران ولا بد من محوها حتى يكمل مشروعه، وبالتالي يدفع في اتجاه ضرورة الاستمرار في الحرب على غزة. والصهيونية السياسية تدفع المرشح بايدن، أيضا، لاختيار الانحياز الأعمى لإسرائيل لكي يفوز بدعم اللوبي اليهودي في انتخابات الرئاسة التي تجري نهاية العام الحالي خاصة إذا نازله فيها ترامب صاحب صفقة القرن والذي يتعهد لإسرائيل واللوبي اليهودي بمواقف منحازة أكثر بكثير من مواقف الإدارة الحالية إذا أعطوه أصواتهم وعاد للبيت الأبيض.
صحيح أن نتانياهو يراوغ ويماطل ويمتنع عن الاستجابة لتيار وقف الحرب وإعادة المخطوفين خوفا على مستقبله السياسي الذي سينتهي تماما بعد الحرب لكن هذه الحرب يمكن أن تتوقف الآن لو أن بايدن أمره بصرامة وحزم بوقفها فورا.