منذ بدء عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، وما تلاها من حرب إسرائيلية على قطاع غزة، ودخول جماعة الحوثيين في اليمن على خط هذه الحرب؛ تشهد منطقة المداخل الجنوبية للبحر الأحمر عند باب المندب، تصاعدًا غير مسبوق في التوترات العسكرية بين الحوثيين والدول الغربية الداعمة لإسرائيل؛ خاصة بعد قيام الجماعة اليمنية بسلسلة من الهجمات بالطائرات المُسيرة “دون طيار” والصواريخ البالستية، باتجاه إسرائيل والسفن التجارية والعسكرية التابعة لإسرائيل، وكذلك التابعة للدول الداعمة لإسرائيل، ردًا على حرب الأخيرة على قطاع غزة.
واللافت، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استخدمت هي وحلفائها، خاصة المملكة المتحدة، هجمات الحوثيين تلك كـ”ذريعة” لـ”عسكرة” البحر الأحمر، من الجهة الجنوبية، من خلال نشر عدد كبير من القوات العسكرية للبحرية الأمريكية والبريطانية، في محاولة منها للسيطرة على باب المندب؛ بما انعكس في اضطلاع السفن الحربية “الغربية”، بمهام الدوريات الروتينية في واحد من أهم شرايين طرق التجارة العالمية.
بقيادة الولايات المتحدة واليابان، أصدر مجلس الأمن الدولي قرارًا يُدين هجمات الحوثيين على السفن التجارية؛ وقد طالب القرار رقم 2722، الذي صدر في 10 يناير 2024، بأن “يتوقف الحوثيون فورًا عن هذه الهجمات”؛ بل ويمنح الحق للدول الأعضاء في الأمم المتحدة “في الدفاع عن نفسها ضد هذه الهجمات”. ورغم امتناع روسيا والصين عن التصويت؛ إلا أن القرار نال تأييدا كبيرا من جانب 11 دولة في مجلس الأمن.
وكانت الولايات المتحدة، قبل صدور قرار مجلس الأمن، قد بادرت بإطلاق عملية “حارس الازدهار”، في محاولة لحماية حركة الملاحة في هذا الممر المائي الحيوي، عندما أعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، من البحرين في 19 ديسمبر 2023، أن التحالف الذي أُطلق عليه “حارس الازدهار”، ينضوي تحت مظلة “القوات البحرية المشتركة” المتعددة الجنسيات، بقيادة الولايات المتحدة، و”القوة 153″ التابعة لها، والتي تعمل في مجال مكافحة النشاطات غير المشروعة في البحر الأحمر.
لكن رغم ذلك، اعترضت كثير من الدول على المُشاركة في هذه العملية؛ خاصة الدول الأوروبية، التي رفضت المُشاركة إلا إذا كانت العملية برمتها في إطار الاتحاد الأوروبي أو “حلف الناتو”.
كان من الممكن أن تتغير معادلة الصراع في البحر الأحمر في حال استطاعت القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، اقناع الصين بضرورة التدخل والضغط على الحوثيين، وعلى إيران بصورة رئيسية؛ من أجل إيقاف الهجمات ضد السفن في البحر الأحمر، لما لذلك من تداعيات كارثية.
إذ، إن التقرير الذي نشرته مجلة “إيكونوميست”، في أول فبراير 2024، وحمل عنوان: “هل تربح الصين من هجمات البحر الأحمر؟”؛ يُشير إلى أن الاجتماعات التي استمرت، خلال 12 ساعة كاملة، يومي 26 و27 يناير الماضي، 2024، في بانكوك، بين مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، وبين وزير الخارجي الصيني وانج يي؛ لم تنجح في إقناع الصين للقيام بدور متميز، ومؤثر، في حماية البحر الأحمر.
وقد اعتمدت المحاولة الأمريكية، على إمكانية توظيف الصين لنفوذها، من خلال علاقتها بإيران والحوثيين، لوقف التهديد الذي يطال شريانًا رئيسًا للتجارة العالمية. وتأتي المحاولة الأمريكية، على خلفية اعتقاد واشنطن أن بكين يُمكن أن تُساعد في وقف هجمات الحوثيين في البحر الأحمر؛ اعتمادًا على علاقات بكين الوثيقة مع طهران، خاصة أن نحو 90 % من النفط الإيراني يُصدّر إلى الصين.
رغم ذلك، ورغم أن القاعدة العسكرية الصينية الوحيدة خارج البلاد، تقع بالقرب من مداخل البحر الأحمر الجنوبية، في جيبوتي؛ إلا أن بكين تجنبت المُشاركة في التحالف العسكري، المعروف باسم “حارس الازدهار”، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وتشكل ردًا على هجمات الحوثيين.
وهنا، يثور التساؤل: لماذا لا تتشارك الصين.. الأهداف الأمريكية في البحر الأحمر، ولماذا لم تُشارك في عملية “حارس الازدهار”؟
ضمن أهم الأسباب الدافعة، في عدم انضمام الصين للتحالف العسكري “حارس الازدهار”، الذي تقوده واشنطن، تأتي الأسباب التالية:
من جانب، تفضيل بكين للنهج السلمي في دورها كـ”قوة دولية كبرى”؛ حيث تفضل الصين، في مُقابل المنظور الأمريكي العنيف، تقديم نفسها كقوة سلمية، قادرة على الدخول على خط كثير من المنازعات، لأجل حلها سلميًا.
من جانب آخر، التخوف الصيني من اتساع نطاق الصراع في منطقة الشرق الأوسط؛ وذلك من منظور أن شركاتها تستثمر أكثر من 20 مليار دولار في الدول المشاطئة للبحر الأحمر، خاصة في مصر والمملكة العربية السعودية، وفقًا لمعهد “أمريكان إنتربرايز” في واشنطن؛ هذا فضلا عن أن أكثر من 70 % من النفط الذي تستهلكه الصين مستورد، ومعظمه يأتي من منطقة الشرق الأوسط.
وأخيرًا.. تُدرك بكين أن هجمات الحوثيين على السفن، تتعلق بالسفن المرتبطة بالدول التي تقدّم المساعدة والدعم لإسرائيل، في حربها على غزة؛ ولأن الصين ليست من بين تلك الدول، فإنها بمنأى عن استهداف الحوثيين لسفنها.
ردًا على هجوم وقع قبالة سواحل الهند، على ناقلة كيميائية مُرتبطة بإسرائيل؛ أعلنت القوات البحرية الهندية، في أواخر عام 2023، أنها سوف تُرسل “ثلاث” مدمرات، تتميز بالمقدرة على التخفي، إلى بحر العرب والبحر الأحمر، لحماية مصالح الهند التجارية.
هذا التحول في السياسة الخارجية الهندية، يُشير إلى أن نيودلهي تسعى إلى ما هو أبعد من تأمين المصالح التجارية؛ حيث تتمحور الأهداف الهندية حول نقطة رئيسة، مفادها: الطموح إلى التفوق “الجيوسياسي”، وترسيخ مكانتها في عالم متعدد الأقطاب؛ من منظور أن الهند تهدف إلى أن تُصبح “ثالث” اقتصاد على مستوى العالم، بحلول عام 2030.
ومن ثم، تتبدى الأهداف الاقتصادية للهند، تلك التي تُمثل الدوافع التي تستند إليها نيودلهي، للتواجد العسكري في البحر الأحمر.. وأهمها:
أولًا: تعريض إمدادات الطاقة الهندية للخطر؛ إذ، يُمكن أن تؤدي الأزمة الحالية، عند المداخل الجنوبية للبحر الأحمر، إلى تعريض إمدادات الطاقة في الهند ذاتها للخطر، لاسيما في ظل الاستهلاك المتنامي للنفط في البلاد؛ حيث إن الهند حاليًا هي “ثالث” مستهلك للنفط على مستوى العالم؛ وتبعًا لإحصائيات عام 2022، فقد استهلكت الهند 205 ملايين طن من النفط في ذلك العام.
ثانيًا: ربما تؤدي الأزمة الإقليمية في البحر الأحمر، إلى خسارة كبيرة للاقتصاد الهندي؛ حيث تُساهم هذه الأزمة في زيادة تكلفة الشحن بمقدار “ثلاثة أضعاف” التكلفة قبل الأزمة؛ بما يُمكن أن يُكلف الهند 30 مليار دولار أمريكي، فضلا عن انخفاض الصادرات الهندية بنسبة 6.7 %. وتبعًا لأرقام العام الماضي 2023، فإن حجم التجارة البحرية للهند وصل إلى نحو 200 مليار دولار أمريكي؛ وهي التجارة التي تتدفق عبر طريق “البحر الأحمر – قناة السويس”.
وهكذا، يُمكن القول بأنه من غير المرجح، أن يتراجع الضغط الأمريكي والبريطاني، على جماعة الحوثيين في اليمن؛ حيث تتواصل محاولات الحصار، وربما بعض الضربات الجوية في حال استمر الحوثيين في مهاجمة السفن الأمريكية والبريطانية.
ومن ثم، يبدو أن المرتكز الأساس، بالنسبة إلى الأزمة الناشبة في البحر الأحمر، جراء الهجمات الحوثية، وما تلاها من تأسيس تحالف “حارس الازدهار”؛ يتمثل في أن القوى الغربية عمومًا، والولايات المتحدة والمملكة المتحدة على وجه الخصوص، تواجه تحديات عميقة في مواجهة هجمات جماعة الحوثيين؛ حيث تحاول هذه الأطراف “الغربية” الجمع بين حماية المصالح الحيوية للتجارة العالمية، وتحديدًا الخاصة بالغرب؛ وبين محاولة التحكم في مرور السفن التابعة للأقطاب الآسيوية، الصين وروسيا، إضافة إلى الهند، في الإطار العام لـ”عسكرة” مداخل البحر الأحمر الجنوبية عند باب المندب.