يُجسد الصراع العسكري في السودان الذي قارب العام – مقولات سيناريو “حافة الهاوية”؛ حيث يتنافس الجانبان، الجيش وقوات الدعم السريع، في محاولة السيطرة على البلاد. وبالرغم من التكلفة المادية والبشرية الباهظة، لا تزال هناك فرصة لتسوية سلمية لهذا الصراع المستمر، من خلال إمكانية الحوار السياسي ووقف إطلاق النار.
إلا أنه في حال استمرار الصراع؛ فمن المرجح أن يتطور إلى طور آخر أكثر كثافة وانتشارًا، خاصة في ظل احتمالية وجود عدة جبهات عسكرية، تتنافس على السيطرة والنفوذ؛ علاوة على البعد العرقي والقبلي للصراع، الذي يمكن أن يجعله أكثر تعقيدًا، وأكثر امتدادًا جغرافيًا وإقليميًا.
أضف إلى ذلك، أن تزايد مُشاركة الجهات الخارجية، لاسيما القوى الإقليمية، ذات المصالح الاستراتيجية، التي تُجاور السودان جغرافيًا، يُزيد الأمور تعقيدًا وتشابكًا؛ ما يجعل من البحث عن “وسيط” لإنهاء الصراع، أكثر أهمية من أي وقت مضى.
ففي الوقت الذي توجد فيه بالفعل، العديد من المبادرات، من جانب عددٍ من الجهات الفاعلة، عربيًا وأفريقيًا، بل ودوليًا أيضًا، للحوار وإنهاء الصراع؛ إلا أن المُشاركة أو الدخول على خط الصراع، من جانب لاعبين إقليميين آخرين، مثل إثيوبيا وإريتريا وكينيا، سوف يُزيد من تشابكات الصراع وتعقيده.
والواقع، أن هذا الاحتمال يستند إلى افتراضٍ مفاده وجود تأثيرات فعلية للصراع الحالي، حتى لو جاءت هذه المرة مُبرأة من الغموض الذي اكتنف علاقات السودان مع دول الجوار، خلال نزاعاته السابقة، في جنوبه وغربه. فقد أضاف الصراع السوداني بُعدًا جديدًا للأزمة الاقتصادية والسياسية والأمنية، وأصبح مُكملًا لدائرة الصراع في منطقة القرن الأفريقي؛ كما أنه ليس ببعيدٍ عن النزاع في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، الذي امتد بدوره من دولة مالي إلى دول الجوار، خصوصًا النيجر وبوركينا فاسو.
إذ من اللافت أن السودان بموقعه الجيوسياسي المتميز، يرتبط بجوار إقليمي مُعقّد؛ يجمعه بإثيوبيا وإريتريا شرقًا، بما يضعه في دائرة التفاعلات الخاصة بمنطقة القرن الأفريقي، هذا بجانب جواره الغربي مع كل من ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وهو الجوار الذي يُعزز من مكانة السودان بوصفه مؤثرا مهما في إقليم الساحل الأفريقي؛ هذا فضلا عن جواره الشمالي حيث الدولة المركزية مصر، بما يضعه في دائرة التفاعلات الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وأبعادها الإقليمية والدولية؛ ثم جواره الجنوبي المتمثل في جنوب السودان، الذي يربط السودان بتفاعلات منطقتي شرق أفريقيا والبحيرات العظمى.
أضف إلى ذلك أن السودان يتأثر بنمط عدم الاستقرار الإقليمي، وكافة ارتدادات عدم الاستقرار هذا على الداخل السوداني؛ فهناك قضايا اللجوء والتأثير في الاقتصاد والتجارة والأمن الغذائي والإنفاق العسكري وغيرها.. مما ينعكس بشكل سلبي على تنمية البلاد المتعثرة أصلا. هذا ناهيك عن قضايا النزوح واللجوء إلى دول الجوار، الناتجة عن الصراع العسكري المستمر.
واللافت، أنه في وقت تتصاعد فيه المعارك بالعاصمة السودانية الخرطوم، في موازاة توتر وتعبئة واستنفار وتسليح شعبي بولايات أُخرى، يستمر رئيس مجلس السيادة السوداني، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، في إغلاق باب الصلح أو الاتفاق مع قوات “الدعم السريع” بل وقرر المُضي قُدمًا في الحرب حتى نهاية أحد الطرفين.
وبالتالي، يبدو أن الصراع الدموي في السودان، في ظل انسداد آفاق الحل السياسي، سوف يستمر، دون أدنى مؤشرات على قُرب نهايته. ومن ثم يثور التساؤل حول: هل يتحول الصراع العسكري بين الجيش والدعم السريع، إلى حرب أهلية طويلة الأمد؟.. أم ينتهي بتقسيم البلاد مرة أخرى؟.. أم ينتصر أحد أطراف الصراع؟ أم يستمر إلى أن تستنزف خيرات البلاد والعباد، ونموذج الصومال ليس ببعيد؟!
في هذا الإطار، يبدو من الواضح أن استمرار الصراع، يؤدي إلى تزايد دور الجهات الفاعلة الخارجية، وتحديدًا مع سعي عديد من الدول لتحقيق مصالحها الخاصة، والتنافس على النفوذ في المنطقة؛ وهو ما يتطلب ضرورة التوصل إلى موقف عربي مشترك، من الصراع في السودان واستمراره، بالشكل الذي يحول دون انزلاق السودان إلى سيناريو الحرب الأهلية والتقسيم، الذي يبدو أنه الحل السهل لتاريخ طويل من الصراعات السودانية.
وفي هذا الإطار أيضا تبدو كافة الاحتمالات المستقبلية؛ تحمل قدرًا كبيرًا من المخاطر، على مستقبل السودان؛ خاصة مع فشل جهود الوساطات المتكررة، وتحوّل الصراع إلى ما يُمكن تسميته “مواجهة صفرية”، بما يتنامى مع تلك الاحتمالات، ومخاطرها، إشكاليات التدخلات الخارجية، سواء الإقليمية أو الدولية.
ما يلفت الانتباه، في هذا الصدد، أن الساحة السودانية لم تشهد تطورات كبيرة، منذ عدة أشهر مضت، سواء على المستوى السياسي أو العسكري؛ لكن رغم ذلك، فقد زادت حدة المعارك مجددًا، خلال الأسابيع القليلة الماضية، بما يُمكن أن يُساهم في انفتاح مستقبل السودان على عديد من السيناريوهات المستقبلية.
وهنا، يمكن الإشارة إلى ثلاثة من السيناريوهات المحتملة، في المستقبل القريب:
الأول: استمرار الصراع والتحول إلى حرب أهلية ممتدة؛ فمع اقتراب الصراع من الشهر الثاني عشر له، منذ أن اندلع في 15 أبريل الماضي، لا توجد أي مؤشرات على التهدئة أو التوصل إلى حل سلمي قريب. وفي الوقت نفسه، يُمثل تدخل الجهات الخارجية جانبًا حاسمًا آخر، من الصراع السوداني؛ خاصة أن تلك الجهات تدعم أحد الفريقين المتحاربين، بما يخدم مصالحها؛ وبالتالي، سوف يؤدي ذلك إلى إطالة أمد العنف، وطول فترة الصراع، وتعقيد جهود التوصل إلى حل سلمي لهذا الصراع.
الثاني: انتصار أحد الأطراف على الآخر؛ وهو الاحتمال الذي يحتمل جانبين، أحدهما انتصار الجيش بقيادة البرهان على الدعم السريع؛ وتعزيز سيطرة الجيش على البلاد، بما يؤدي إلى تفكك قوات الدعم، والانقسام بين الفصائل السودانية المسلحة، بين الانضمام للجيش أو البقاء في وضع المعارضة المسلحة. أما الجانب الآخر، فهو أن يتمكن الدعم السريع من تحقيق هزيمة كبرى للجيش السوداني؛ وفي هذه الحال ستُعزز قوات الدعم السريع نجاحها بتشكيل تحالفات مع الجماعات المسلحة الأخرى، بما سيُتيح للدعم السيطرة على أجزاء واسعة من السودان.
الثالث: انتهاء الصراع بالتقسيم الفعلي للسودان؛ حيث سيأخذ الصراع الجاري منعطفًا محتملًا، يؤدي إلى تقسيم السودان؛ إذ، سيؤجج صراع السلطة المتصاعد، الانقسامات العرقية والإقليمية القائمة، ما يدفع السودان إلى حالة من التفكك؛ بل سيتحول صراع السلطة بين البرهان وحميدتي إلى نقطة أساسية في الصراع، من منظور تحرك كل منهما مدفوعًا بطموحاته الشخصية؛ بما يؤدي إلى المزيد من تفاقم التوترات، وزيادة استقطاب الفصائل المسلحة الأخرى، وسعي كل منها إلى محاولة السيطرة على الأراضي أو الموارد أو النفوذ السياسي.
في هذا السياق، يمكن القول بأن مستقبل السودان منفتح على سيناريوهات متعددة، لكنها جميعًا تحمل العديد من المخاطر على السودان ومستقبله، خاصة وأنها جميعًا تلتقي عند النقطة التي تؤشر إلى “حافة الهاوية”.