بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عمان
تفاجأ البعض من الانتقال الصريح والعلني في الخطاب السياسي الأمريكي الأيام الماضية للمطالبة بخروج نتانياهو من الحكم والمطالبة بانتخابات جديدة تجعل ذلك ممكنا. سبب المفاجأة هو أن كل التقارير الأمريكية والإسرائيلية عن الزيارة الأخيرة لبيني غانتس (الخليفة المحبذ أمريكيا لخلافة نتانياهو) لواشنطن أجمعت على أن ما سمعه الأمريكيون منه من مواقف كان نسخة مطابقة لمواقف نتانياهو المتشددة دون أدنى اختلاف.
إذ كرر غانتس مواقف نتانياهو المحورية فيما يتعلق بدعمه التام مسار وأهداف حرب الإبادة الجارية للشعب الفلسطيني في غزة أو لحرب التجويع ومنع المساعدات من الدخول إلى ما يزيد على مليوني نسمة.. والأهم فيما يتعلق باتفاقه مع نتانياهو في الرفض التام لقيام دولة فلسطينية في أي سيناريو مستقبلي لما يُعرف «باليوم التالي» للحرب.
إذن لماذا اختارت الإدارة الأمريكية في الفيلم الهوليوودي الكبير الذي تحضره للشرق الأوسط بعد غزة.. أن تجعل من نتانياهو الرجل الشرير وتجعل من غانتس البطل أو الرجل الطيب.
في البداية لا بد من الإشارة إلى ما سبق لكاتب المقال أن بادر به بعد أيام قليلة من هجوم ٧ أكتوبر المظفر من أن أحد أهم التغييرات الاستراتيجية التي أحدثها الهجوم هو إعادة إسرائيل إلى حجمها الطبيعي كتابع صغير للغرب الرأسمالي بقيادة أمريكا بهدف حماية مصالحه الهائلة في المنطقة. لقد عنى ذلك سقوط أحلام «بيبي ملك إسرائيل» الذي صوَّر له غروره الشخصي وغرور بقائه الطويل في السلطة وجائزة التطبيع الإبراهيمي المشؤوم غير المستحق التي نالها أنه يستطيع أن يرتقي لوضع الشريك في عملية صنع القرار الغربي في المنطقة وأن أربابه سيسمحون له بهامش استقلال عنهم في الشؤون الإقليمية والدولية.
هذا السيناريو في واقع الأمر مقصود به الهندسة السياسية الأمريكية التي تجهزها للمنطقة وسط استسلام وخضوع تام لها من قبل النظام العربي والفلسطيني، ووسط مجاراة وموافقة ضمنية ولكن حاسمة من حليفها الدائم والراسخ في الكيان الصهيوني وهو «جيش الدفاع الإسرائيلي» وعلى رأسهم رموز مثل بيني غانتس رئيس الأركان الأسبق.
فقط تأتي المقاومة -جزئيا- من نتانياهو الذي لا يزال في حالة إنكار لما طرأ على وزن إسرائيل الاستراتيجي من انكماش ورفضه تصديق أنها عادت للمربع الأول القديم.. مربع تلقي الأوامر من البيت الأبيض.
جزء من عقدة العلاقة بين بايدن ونتانياهو بدا واضحا في الصورة الشهيرة لتربيت الأول على كتف الثاني في زيارة الدعم الأعمى التي قام بها الأول لإسرائيل في ١٨ أكتوبر الماضي. إذ كانت تلخيصا استراتيجيا دقيقا لعودة علاقة الاعتماد التام الابن على الأب وأخذ الأب لزمام الأمور في يده بعد أن خيّب الابن آماله وسقط مهزوما أمام مباغتة المقاومة -عدوهما المشترك- فجر ٧ أكتوبر. لا يزال الابن في حالة إنكار، يرفض الاعتراف بالتغير الذي جعله مرة أخرى ولأول مرة منذ حرب ٧٣ يستنجد بوالده وسيده الأمريكي عسكريا وسياسيا واقتصاديا لإنقاذه كدولة من الانهيار في أخطر تهديد وجودي تتعرّض له منذ نكبة تأسيس إسرائيل قبل ٧٥ عاما.
لم يفهم نتانياهو أنه لن يسمح له مرة أخرى أن يكون هو من يقوم برسم خريطة الشرق الأوسط الجديد كما تجرأ وفعل في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام من صدمة طوفان الأقصى وأن الطرف الوحيد المخول برسم خرائط المنطقة وتحديد نوع التسوية التي تنتهي إليها حرب غزة هو فقط العم سام.
لم يفهم نتانياهو أيضا بأنه صار أمام العالم كله رمزا للشر والقتل ومجرمي الحرب أو بتعبير بعض الإسرائيليين علامة تجارية سيئة تضر بسمعة إسرائيل. لم يفهم أنه بذلك بات يعرقل خطة واشنطن لخداع العرب من جديد والتي تزعم أنه إذا قَبِلَ العرب بتصفية حماس والمقاومة ونزع سلاحها وإنهاء حكمها لغزة ونقل هذا الحكم لسلطة رام الله.. فإن ذلك سيؤدي لإحياء حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية.
حسب هذه الخدعة فإن حل الدولتين ممكن فقط إذا تم التخلص من المتطرفين الشريرين على الجانبين واستبدالهما المعتدلين الطيبين. حماس والجهاد في هذا السيناريو أو الشرك الخداعي هما المتطرفان في الجانب الفلسطيني بينما المعتدلون فيه هي السلطة الفلسطينية بعد تجديدها وتغيير وجوهها «تم تعيين محمد مصطفى الاقتصادي المقرب من واشنطن رئيسا للحكومة الفلسطينية قبل أيام». على الجانب الإسرائيلي فإن التطرف تمثله حكومة نتانياهو وبن غفير وسموتيرش وأن مخاطبة الجمهور الإسرائيلي بشكل غير مباشر كما فعل شومر رئيس الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب، أو بشكل مباشر -كما يتردد في واشنطن- من أن بايدن قد يقبل زيارة لإسرائيل تسمح له بإلقاء خطاب أمام الكنيست الإسرائيلي قد تفتح الباب لانتخابات يفوز بها غانتس، فالأخير كسائر قادة الجيش الإسرائيلي يؤمن بعقيدة ثابتة منذ بن غوريون أنه لولا التحالف مع أمريكا ودعمها لما استطاعت إسرائيل الاستمرار في الوجود كدولة.. وأن اندفاع نتانياهو إلى السجال الكلامي العلني مع واشنطن وتحديها ولو ظاهريا هو نزق وترف سياسي غير مقبول على الأقل وإسرائيل في حرب ضروس تعتمد فيها على جسر السلاح الجوي شبه اليومي من أمريكا والذي من دونه لخسرت الحرب حتما.
ستدعي أمريكا هنا أنها تخلصت من الأشرار على الجانبين وأن الإسرائيليين كسبوا بنزع سلاح المقاومة اختفاء التهديد الوجودي لأمنهم وأن العرب والفلسطينيين كسبوا إزاحة نتانياهو وحكومته المتطرفة التي تقف في وجه حل الدولتين.
تحاول واشنطن هنا تبرئة إسرائيل كدولة احتلال عنصري تمثل سياسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري لسكان وأحزاب البلاد الأصليين جزءا لا يتجزأ من عقيدتها ومن قدرتها على البقاء كدولة غير طبيعية زرعها النظام الرأسمالي الغربي بمرحلتيه في الاستعمار القديم والجديد.. وتحول إدانة الشعوب المتزايدة لها ككيان وكفكرة إلى إدانة لأشخاص يتم استبدالهم بوجوه جديدة والسياسات نفسها. تعرف واشنطن أن المشكلة ليست تطرف نتانياهو وأن المشكلة هي في كامل الطبقة السياسية الإسرائيلية الحاكمة من ٤٨ حتى الآن، وأن رفض الانسحاب من القدس وغور الأردن ومعظم الضفة الغربية هي سياسة متفق عليها في القوس السياسي كله ممتدا من أحزاب اليسار العلماني لأحزاب اليمين القومي والديني المتطرف. لا فرق في هذا بين رابين وبيريز وبيجين ونتانياهو ولا بين باراك وغانتس. بل تعرف واشنطن أن المشكلة أن مصالحها في المنطقة ومواقف طبقتها السياسية إنما تتبنى الأفكار نفسها وأنه ليس هناك رئيس أمريكي ولا وزير خارجية أمريكي منذ ٦٧ وافق على دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو. تعرف أيضا أن حل الدولتين قتله الاستيطان غير الشرعي في الضفة الغربية والقدس الذي مولته التبرعات الأمريكية غير الحكومية والمساعدات الحكومية السنوية لإسرائيل التي تصب حكومات تل أبيب المتعاقبة نصيبا مهما منها في أسمنت المستوطنات لكن أمريكا تراهن على أنها تستطيع عبر تغيير الوجوه في السلطة الفلسطينية وتغيير الوجوه في حكومة إسرائيل خداع العرب والوصول لهدفها في إحياء صفقة التطبيع الشامل بين إسرائيل والسعودية وست دول عربية أخرى. أي تأمل في تحقيق مشروعها الاستراتيجي ببناء تحالف إسرائيلي عربي تركي سني تابع لها يحاصر أو يكسر شوكة إيران الشيعية وبالتالي يضمن استمرار هيمنة واشنطن على الشرق الأوسط.