في محاولتنا الاستمرار في الحديث عن إحدى أهم الظواهر الدلالية في الرسم القرءاني، لآيات التنزيل الحكيم، يأتي حرف “الألف” ليؤشر إلى اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال التثبيت، يأتي الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي؛ وأما في حال لم يثبت الحرف، دل المصطلح على الجانب المعنوي الوظيفي.
وعبر رحلتنا مع حرف “الألف”، وضمن عديد من الأمثلة على أهمية هذا الحرف، بوصفه مؤشرا دلاليا؛ وإضافة إلى أمثلة مُتعددة، كنا قد تناولناها في أحاديث سابقة، سنحاول في حديثنا هذا الاقتراب من مصطلحات قرءانية أُخرى، تؤشر إلى مدى ما يُمثله هذا الحرف من أهمية دلالية، ضمن سياق آيات التنزيل الحكيم.
لغة، قام يقوم قوامًا، وقيامًا، إذا انتصب ووقف؛ والقيام والقوام “اسم لما يقوم به الشيء”، والقومة، المرة الواحدة. ومن المنظور الدلالي، يؤشر “القيام” إلى المقدرة أو العزيمة؛ وكما يُقال “قام بهذا الأمر” إذا اعتنقه أو اهتم به واستطاع إنجازه. وقد ورد لفظ “قِيَامٖ” مرتان في آيات التنزيل الحكيم، في حين ورد لفظ “قِيَٰمٗا” في خمسة مواضع.
والمُلاحظ، أن “قِيَامٖ” يأتي في الموضعين مُثبت حرف الألف، للدلالة على الجانب المادي، العضوي للمصطلح؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ” [الزمر: 68]. إذ، لنا أن نلاحظ بداية، الفارق بين حرفي العطف “ثُمَّ” و”الفاء”؛ فالأولى، تُفيد الترتيب مع التراخي في الزمن، بمعنى أن بين النفختين “وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ… ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ”، مسافة زمنية ليست بالقصيرة؛ في حين أن “الفاء” في “فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ”، إضافة إلى كونها حرف عطف، تُفيد التعقيب من غير تراخ، بمعنى أن “هُمۡ قِيَامٞ” عقيب النفخة الـ”أُخۡرَىٰ”.
لنا أن نلاحظ، أيضًا، أن تثبيت حرف الألف في “قِيَامٞ” يأتي للدلالة على الجانب المادي، العضوي، للمصطلح؛ أي الحركة المادية في الوقوف عقيب النفخة الـ”أُخۡرَىٰ”. هذا، مع التأكيد على أن “صَعِقَ”، في قوله تعالى: “فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ”، لا تعني “الموت” كما ذهب إلى ذلك كثيرٌ من المفسرين، القدامى منهم والمحدثين؛ وذلك بدليل قوله سبحانه عن موسى عليه السلام: “فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ…” [الأعراف: 143]. إذ، من المعروف أن موسى “صَعِقَ”، لكنه لم “يمت”.
وكما ثبت حرف الألف في “قِيَامٞ” في هذه الآية الكريمة؛ فقد ثبت أيضًا في “قِيَامٞ”، في قوله تعالى: “وَفِي ثَمُودَ إِذۡ قِيلَ لَهُمۡ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٖ ٭ فَعَتَوۡاْ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِمۡ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَهُمۡ يَنظُرُونَ ٭ فَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ مِن قِيَامٖ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ” [الذاريات: 43-45]. وهنا، تتأكد دلالة الجانب المادي، العضوي، للمصطلح، في تثبيت حرف الألف في “قِيَامٞ”، عبر نفي الحركة المادية في الوقوف لدى “ثَمُودَ… فَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ مِن قِيَامٖ”.
خلافًا لمصطلح “قِيَامٞ”، الذي يدل على الجانب المادي، العضوي؛ يأتي مصطلح “قِيَٰمٗا” محذوفًا منه حرف الألف، للدلالة على الجانب الوظيفي في “القيام”. ويتأكد هذا عبر “خمسة” مواضع ورد فيها مصطلح “قِيَٰمٗا” في آيات التنزيل الحكيم.
في “ثلاثة” من هذه المواضع، يأتي “قِيَٰمٗا” كأحد أطراف “معادلة تعبدية” تتضمن ذكرًا لله سبحانه وتعالى؛ “قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا” في قوله سبحانه: “إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٭ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ” [آل عمران: 190-191].. وأيضًا، في قوله تعالى: “فَإِذَا قَضَيۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا” [النساء: 103].
ولنا أن نلاحظ هنا، أن “قِيَٰمٗا” جمع “قائم” وهي “حال”، وأن “قُعُودٗا” جمع “قاعد” وهي “حال” كذلك؛ وأن الاثنين يأتيان في سياق “وظيفة حال” الإنسان، أو بالأحرى “الحال الوظيفي” للإنسان في أثناء ذكر الله سبحانه وتعالى؛ ولأن الحال، هنا، يتعلق بالجانب الوظيفي، فقد ورد مصطلح “قِيَٰمٗا” محذوف الألف، أي دون تثبيت حرف الألف.
وهو نفس الإطار الذي ورد فيه المصطلح في الموضع “الثالث”، إطار ذكر الله من خلال “معادلة تعبدية”؛ وهذه المرَّة من خلال التعبير القرءاني “سُجَّدٗا وَقِيَٰمٗا”، في قوله عزَّ من قائل: “وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا ٭ وَٱلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمۡ سُجَّدٗا وَقِيَٰمٗا” [الفرقان: 63-64]. وهنا، تأتي “سُجَّدٗا”، جمع “ساجد” وهي حال؛ وتأتي “قِيَٰمٗا” جمع “قائم” وهي “حال”، كذلك؛ مثلها في ذلك مثل الموضعين السابقين [آل عمران: 191] و[النساء: 103]، للدلالة على الجانب الوظيفي لـ”حال” القائم بذكر الله سبحانه.
أما عن الموضعين الأخيرين، ضمن المواضع “الخمسة” التي ورد فيها لفظ “قِيَٰمٗا” محذوف الألف، أو دون تثبيت حرف الألف؛ فقد ورد المصطلح “قِيَٰمٗا” للدلالة على وظيفية “أَمۡوَٰلَكُمُ” في موضع، وعلى وظيفية “ٱلۡكَعۡبَةَ” في الموضع الآخر.
في الموضع الأول، يأتي قول الله سبحانه: “وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا” [النساء: 5]. وهنا، نُلاحظ كيف تُرد الأموال إلى المخاطبين بالنهي القرءاني “وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ”؛ وأن السبب في ذلك هو وظيفية هذه الأموال “ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا”، أي التي يعتمد عليها “معاشكم”. لذا، كان السياق القرءاني في الآية الكريمة دال على الجانب الوظيفي لـ”أَمۡوَٰلَكُمُ”؛ ومن ثم، كان النهي القرءاني عن إيتاء السفهاء هذه الأموال، وكان ورود المصطلح “قِيَٰمٗا” محذوف الألف.
في الموضع الآخر، يأتي قول الله تعالى: “جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِيَٰمٗا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَٱلۡهَدۡيَ وَٱلۡقَلَٰٓئِدَۚ ذَٰلِكَ لِتَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ” [المائدة: 97]. وهنا، نُلاحظ كيف أن “ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ”، هذا البناء المادي، قد جعلها الله سبحانه وتعالى “قِيَٰمٗا لِّلنَّاسِ”، أي صلاحًا ومعاشًا لأمن الناس بها، فتحول البناء المادي إلى وظيفة معنوية؛ ومن ثم، كان السياق القرءاني في الآية الكريمة دال على الجانب الوظيفي لـ”ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ”، وكان ورود المصطلح “قِيَٰمٗا” دون تثبيت حرف الألف.
فماذا إذن عن مصطلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ” الذي ورد في آيات التنزيل الحكيم في “70” موضعًا، محذوف حرف الألف في كل هذه المواضع؟
