رؤى

روسيا ودوافع التواجد “الميداني”.. في ليبيا

لعل المتابع المهتم بما يحدث على الساحة السياسية الليبية، له أن يُلاحظ أن الأزمة السياسية في هذا البلد، ما تزال رهن حالة الصراع الدولي والتنافس المحلي، بين القوى الفاعلة في شرق البلاد وغربها؛ وذلك على خلفية الوصول أو محاولة الوصول، إلى الاستحقاق الانتخابي، وتشكيل حكومة موحدة تتولى تنفيذ الانتخابات على منصب الرئيس.

إذ تعيش ليبيا -منذ أكثر من عامين- مشهدا مشابها لما كان عليه الحال عام 2015، أي حكومتين على الأرض لكل منهما جناح عسكري؛ وهو ما يدفع إلى التأزم والاحتقان، خاصة بعد فشل محادثات القاهرة في التوصل إلى قاعدة دستورية توافقية، تعبر بالبلاد إلى ضفة التحول الديمقراطي، عبر الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

للمتابع أن يُلاحظ، أيضا، أن المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، كان قد تقدّم باستقالته خلال الشهر الفائت، تاركا جهود التسوية لنائبته ستيفاني خوري، التي عقدت عدة اجتماعات مع القوى المحلية، بغية استقراء المشهد السياسي العام على الساحة الليبية، وسط ترجيحات بتسميتها “المبعوث الجديد” خلفا لباتيلي.

إلا أن الملاحظة الأهم، هي ما يتعلق بالتوجهات الروسية -منذ بداية العام الجاري بشكل خاص- التي يبدو أنها تسعى إلى تطوير حضورها الميداني في شرق وجنوب ليبيا، بوصفها “نقطة ارتكاز” لتعزيز مصالحها الاستراتيجية في القارة الأفريقية؛ وهو الحضور الذي يأتي تحت اسم “الفيلق الروسي الأفريقي”.

تتعدد العوامل الدافعة إلى الاهتمام الروسي بالساحة الليبية، ومحاولة استهداف التوازن في العلاقات مع مختلف الأطراف الليبية.. وذلك كما يلي:

أولًا: تأثير ليبيا الجيواستراتيجي على جنوب أوروبا؛ حيث إن الحضور الروسي في ليبيا، يُكسبها نفوذا كبيرا على أوروبا عموما، وجنوب أوروبا بشكل خاص؛ من منظور أن الروس، عبر هذا الحضور، يمكن لهم التحكم في ملفين استراتيجيين بالنسبة للأوروبيين، ملف الطاقة وملف اللاجئين؛ بما يعني أن أي أزمة للاجئين تنبثق من ليبيا، يمكن أن تُعيد التوترات، وتُعزز من تصاعد اليمين المتشدد، وتزعزع استقرار الاتحاد الأوروبي.

ثانيا: التأكيد على التواجد عسكريا في شرق ليبيا؛ فرغم نفي المسئولين الروس استهداف بناء قاعدة عسكرية في ليبيا، إلا أن منفذا بحريا على سواحل المتوسط، في شرق ليبيا، يُمثِّل أحد الأبعاد الاستراتيجية للتحركات الروسية، في منطقة المتوسط وشمال أفريقيا، من منظور مدى التأثير الممكن على جنوب أوروبا، ومدى ما تُتيحه ليبيا من فرص لوجستية واسعة، في هذه المنطقة الحساسة بالنسبة إلى أوروبا، والولايات المتحدة أيضا.

ولعل وضع الملف الليبي، منذ عام 2015، تحت مسئولية نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، وهو الرجل المُكلف بمنطقة الشرق الأوسط في الدبلوماسية الروسية؛ يؤكد مدى الأهمية التي يوليها الكرملين لهذه  الدولة التي تطل سواحلها على أوروبا؛ والتي لا تبعد سوى 390 ميلا بحريا عن مالطا، و486 ميلا بحريا عن جزيرة لامبيدوزا الواقعة في أقصى جنوب إيطاليا.

ثالثا: أهمية ليبيا الاقتصادية في المنظور الروسي؛ حيث لا تكتفي روسيا بأن تكون جزءا من المعادلة في ليبيا، وتثبيت تواجدها العسكري هناك، لتكون نقطة انطلاق إلى العمق الأفريقي وحجر الأساس لحماية مصالحها؛ ولكن إضافة إلى ذلك، تهتم روسيا بالموارد الليبية، خاصة بما يتوافر لديها من خبرة في قطاع الطاقة، الذي تذخر به ليبيا.

إذ، فضلا عن الرغبة الروسية في محاولة استعادة بعض العقود بمليارات الدولارات، التي كانت قد أبرمتها مع “القذافي”؛ فهي تنظر إلى شرق ليبيا باعتباره منبعا مهما للنفط، من خلال 46.4 مليار برميل من احتياطي النفط المؤكد، الذي يُعد الأكبر في أفريقيا والعاشر عالميا.

في هذا السياق، يُمكن القول بأن موسكو تستهدف تحقيق تقدم ملموس في ترسيخ تواجدها في ليبيا، في غرب البلاد كما في شرقها؛ بما يعني أن المحاولة الروسية تستهدف تجاوز مسألة الدعم التقليدي لقائد الجيش الليبي، إلى الاقتراب من الأطراف السياسية في غرب ليبيا.

والمُلاحظ، أن الأمر، بالنسبة إلى روسيا، لا يتوقف عند حدود توسيع النفوذ الدبلوماسي، بقدر ما هو محاولة الانخراط في تفاعلات الساحة الليبية، عبر التواصل مع كافة الأطراف، بما في ذلك رئيس حكومة الوحدة الوطنية، منتهية الولاية، عبد الحميد الدبيبة.

وبالتالي، بينما يُركز الغرب على الحرب في أوكرانيا، تبحث روسيا عن نقاط ضعفه في باقي العالم، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوجه خاص. وفي هذه الحرب، الأخرى، تبرز ليبيا كـ”أرض الفرص” بالنسبة إلى صانع القرار الروسي، بما تعنيه من “أولوية استراتيجية” في إطار المواجهة مع الغرب.

وكما يبدو.. تنظر روسيا إلى الملف الليبي على أنه أحد الملفات، التي يجب أن توليها اهتماما خاصا، بسبب حجم المصالح السياسية والاقتصادية، والاستراتيجية أيضا؛ تلك التي تسعى روسيا إلى حمايتها وتعزيزها في القارة الأفريقية، عبر البوابة الليبية.

يتأكد هذا، عبر ملاحظة أنه، وبعد الحرب الروسية في أوكرانيا، لا يبدو أن ثمة مقاربات سياسية ذات ملامح عقابية يستطيع بها الاتحاد الأوروبي ردع روسيا في الوقت الحالي، فالأوراق المتناثرة بين الفريقين بسوريا وإيران والعراق ولبنان، وليبيا، لا تسمح لأي منهما أن يكون الفائز الأوحد، إنها أشبه بسايكس بيكو غير معلنة، لا تفرضها المفاوضات بعد حروب منهكة، بل يفرضها الاقتصاد المنهك واختبار أي الطرفين أقدر على تحمل تبعات التحرك العسكري.

خلاصة القول، أن ما يُساعد صانع القرار الروسي على التوجه ناحية الساحة الليبية، والتمركز من خلالها على سواحل البحر المتوسط،  هو المواقف المتباينة لكبرى دول الاتحاد الأوروبي في ليبيا، وهي سياسات جزئية متعارضة في ما بينها، تستخدم فيها كل دولة قدرتها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة. ومن ثم، ستظل ليبيا المجال الحيوي لصراع الدول الأوروبية الكبرى الأربعة: إيطاليا، بريطانيا، ألمانيا.. وفرنسا، إضافة قطعًا إلى الولايات المتحدة، وروسيا.

ولعل ذلك ما يساعد حكومة الدبيبة، المنتهية ولايتها، فضلا عن حكومة شرق ليبيا، في استغلال تذبذب الموقف الدولي المتأثر بالحرب الروسية في أوكرانيا، التي ألقت بظلالها على الملف الليبي في أروقة مجلس الأمن الدولي؛ حيث يبدو الانقسام بوضوح بين التكتل “الروسي  الصيني”، والتحالف “الأمريكي البريطاني  الفرنسي”.

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock