عام

دوافع تركيا.. في الدخول على خط الأزمة الليبية

ضمن أهم التساؤلات المطروحة بشأن علاقة القوى الإقليمية بالأزمة الليبية، هو التساؤل الخاص بأهداف ودوافع الدخول التركي على خط الأزمة الليبية؛ والمساندة التي تقوم بها تركيا، عبر التسليح والتدريب، للقوات والميليشيات المسلحة التي تتمركز في طرابلس ومحيطها.

قد يرى البعض دوافع واضحة للدخول التركي على خط الأزمة في سوريا، أو في العراق، حيث تتشارك معهما الحدود والجوار الجغرافي، إضافة إلى مسألة الأكراد التي تُقلق المضاجع التركية بالتأكيد.. ولكن، ماذا عن ليبيا التي تبعد آلاف الكيلومترات عن الأراضي التركية؟

لقد بدأ التدخل التركي في الشأن الليبي يتبدى شيئا فشيئا، من خلال الدعم العسكري التركي، الذي يتوجه بالأساس إلى ميليشيات ينتمي أفرادها عمومًا إلى جماعات الإسلام السياسي؛ وهو بالطبع امتداد لسياسات أنقرة التي سبق وأن طبقتها -ولا تزال- في بعض بلدان شرق المتوسط، وأهمها سوريا، حيث تُمثل الخلفية الأيديولوجية مساحة مشتركة تساعد تركيا على تنفيذ سياساتها، والحصول من خلالها على مكاسب استراتيجية.

لكن، منذ انهيار تنظيم “الإخوان المسلمين” في مصر، وانحسار تأثير فروعه في سوريا، وحاليًا في السودان، فضلًا عن تونس، تحاول تركيا إنقاذ ما يُمكن إنقاذه في ليبيا، خصوصًا بعد استعادة الجيش الوطني الليبي السيطرة على معظم أراضي البلاد، فيما لم يتبق سوى العاصمة طرابلس.

إلا أن التساؤل حول الدوافع والأهداف التركية يظل مطروحًا، على الأقل من منظور المصالح الاستراتيجية التي تتغيا تركيا تحقيقها.

لعل أحد الأسباب التي تدفع أنقرة إلى التدخل في الصراع الدائر على الساحة الليبية، هو البحث عن “منطقة نفوذ”، تستطيع بها الضغط على أوروبا؛ وهو ما يمكن أن يتحقق عبر ورقة “المهاجرين”، باعتبار أن ليبيا تُشكل حاليًا أهم البوابات الرئيسة لوصول هؤلاء إلى أوروبا؛ وهي ورقة استطاعت تركيا استخدامها من قبل عبر المهاجرين السوريين.

والواقع أن ورقة المهاجرين تُمثل مصلحة استراتيجية لتركيا، التي تسعى جاهدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي -المُعرِض عنها- تتمكن من خلالها من تخفيف الضغوط الأوروبية عليها، خصوصا تلك المتعلقة بـ”حقوق الإنسان”. بل، تزداد أهمية هذه الورقة، ورقة المُهاجرين، بعد التوتر الذي كان قد حدث بين تركيا والاتحاد الأوروبي، بسبب أنشطة التنقيب عن الغاز الطبيعي التي حاولت أنقرة القيام بها قرب سواحل قبرص.

بيد أن هذا يأتي ضمن أسباب أخرى عديدة، من بينها: أن تركيا، التي تضع قدمًا مع حلف الأطلسي “ناتو”، وأخرى مع روسيا، وتحاول أن تجد لنفسها منطقة نفوذ على الجانب الغربي من الأراضي الليبية، تُدرك تمامًا أن تمكن الجيش الوطني الليبي من التمدد إلى طرابلس، التي تُمثل آخر معاقل الإخوان هناك، يعني نهاية الهيمنة على القرار السياسي والمالي في ليبيا؛ ومن ثم، دعمت هذه “المنطقة” منذ بدايات الأزمة الليبية بفتح خط ساخن مع تنظيم الإخوان المسلمين وعناصر الجماعة الليبية المقاتلة، فضلًا عن ميليشيات فجر ليبيا، وغيرها، من أجل استخدامها كورقة “مساومة” مع دول الجوار الليبي جغرافيًا.

أضف إلى ذلك، أن أنقرة تدرك كذلك أنه لا مستقبل لنفوذ تركي -عسكري وأمني- في سوريا، سواء طال أمد وجودها العسكري هناك أم قصر؛ وبالتالي تسعى للتموضع في ليبيا كمنطقة بديلة، أو مضافة إلى سوريا كحد الأدنى، ونقل جماعات مسلحة استخدمتها أنقرة هناك لتعزيز حضورها في ليبيا، بما يمكنها من المشاركة في تحديد مستقبل هذا البلد، أو على الأقل الاستفادة من عقود الإعمار المحتملة مستقبلًا. هذا، فضلا عن محاولة التأثير على مقاربات دول الجوار، وإزعاج مصر، بالحصول على موطئ قدم على السواحل الليبية.

من بين الأسباب أيضًا، أن ليبيا التي تتميز بكونها أحد أكبر احتياطيات النفط في أفريقيا، تُعد بلدًا مثاليًا لاستيراد الأسلحة من تركيا، طالما استمر فيها الصراع العسكري؛ حيث تحظى مشروعات الصناعات العسكرية الدفاعية باهتمام الحكومة التركية، التي تخصص لها ما متوسطه 1.3 مليار دولار من الموازنة السنوية.

وبالتالي، فإن تحقيق نوع من التوازن بين القوى المتصارعة على الساحة الليبية، هو أمر مهم بالنسبة إلى أنقرة، من حيث إن دعم القوات الموالية لحكومة “طرابلس”، وميليشيات مصراتة، هي فرصة لفتح سوق للسلاح التركي؛ هذا فضلا عن أن صراع هذه الميليشيات مع الجيش الوطني الليبي، هو فرصة لاختبار السلاح التركي في مواجهة هذا الأخير.

ثم، يأتي أهم تلك الأسباب، من منظور الأولويات التركية في دعمها تلك الميليشيات؛ فإضافة إلى محاولة الحصول على نصيب من الثروة النفطية الليبية، تضع أنقرة نُصب أعينها الفوز بحصة من الاحتياطي الهائل من الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط؛ وهو الهدف الذي يحتاج إلى حلفاء لتركيا في طرابلس.

وهنا، لنا أن نلاحظ أن أنقرة التي تجد نفسها في عزلة إلى حد ما، بعدما دخلت دول الجوار في البحر المتوسط في اتفاقات لتقسيم مناطق البحث واستخراج الغاز، وفي ظل المعارضة الأوروبية والدول المتوسطية الخطط التركية للتنقيب بشكل أحادي؛ تجد أنقرة نفسها مضطرة إلى الدخول في اتفاق مع حكومة الدبيبة، ومن قبلها حكومة السراج، في طرابلس، حول المشاركة الساحلية للحد من مطالبات اليونان بالسيادة البحرية على المنطقة؛ إذ، في حال الاتفاق بين “طرابلس” وأنقرة، تستطيع هذه الأخيرة ترسيم حدود بحرية “غير سليمة”، لمواجهة الضغط الناشئ عن الكتلة “المصرية، اليونانية، القبرصية اليونانية”، وتستفيد من زيادة إجمالي مساحة منطقتها الاقتصادية إلى نحو 190 ألف كلم، متجاوزة بذلك اليونان وقبرص.

هكذا، تتبدى بوضوح الدوافع الاقتصادية التركية وراء تدخلها في الأزمة الليبية، ومحاولة تصعيد هذه الأزمة، عبر دعمها لحلفائها السياسيين والميليشيات المسلحة، التي تتمركز في طرابلس العاصمة؛ بداية من اللعب على ورقة المهاجرين للضغط على أوروبا، ومرورًا بمحاولة الحصول على حصة من عقود إعادة الإعمار في ليبيا، وكذا تجريب واختبار السلاح التركي في مواجهة الجيش الليبي، وصولًا إلى غاز منطقة شرق المتوسط.

فهل تمتلك تركيا المؤهلات اللازمة لإدارة هذه الدوافع الكبرى؟

إذا لاحظنا تراجع أحلام العثمانية الجديدة، واضطرار أنقرة لتفكيك وإعادة تركيب تحالفاتها الدولية والإقليمية، تحت وطأة التفاعلات الدولية في سوريا، وفي ظل تضاؤل الأمل التركي في الدخول على خط “الغاز السوري”؛ ناهيك عن المشكلات الاقتصادية التي تواجهها حاليًا، وسوف تواجهها مستقبلًا؛ إضافة إلى بعض المؤشرات الأخرى.. إذا لاحظنا ذلك كله، لا يكون من العسير أن نلمح التراجع في الدور الإقليمي لتركيا في المستقبل القريب.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock